فى نوفمبر من العام الماضى.. وجه الاتحاد الأوروبى بياناً شديد اللهجة إلى الحكومة التركية منتقداً فيه قرار حظر النشر الذى أصدرته بشأن قضايا الفساد التى تورط فيها أربعة وزراء من حكومة أردوغان. أقر البيان وقتها بأهمية السرية أثناء التحقيقات الجنائية، غير أن التضييق على نشر أخبار متعلقة بمصلحة الرأى العام يجب أن تكون متناسبة، كما أنه من المفروض أيضاً أن تعمد السلطات إلى إيضاح وتعريف الأسباب التى تستوجب حظر النشر للرأى العام. وعلى الرغم من أننا ننتقد الحكومة التركية آناء الليل وأطراف النهار، فإننا نصر على الوقوع فى نفس أخطائها! فكلما شعرنا بأن العدالة فى مصر ما زالت بخير.. صدر قرار حظر النشر ليجعلنا لا نستطيع أن نتابع سير التحقيقات ضد من أخطأ.. ولا أدرى السبب!! فمنذ قيام ثورة يناير وجهاز الشرطة المصرية فى معركة مستديمة لاستعادة قوته التى كان يتمتع بها قبل الثورة.. والتى كانت لا تستند إلى القانون بقدر ما كانت تستند إلى القهر والظلم الذى كان يمارسه عدد غير قليل من أعضائه بحرفية بالغة.. ولكن لأننا قمنا بالثورة من أجل أن يُطبق القانون على الجميع.. سقط كثير من أعضاء هذا الجهاز الخطير تحت وطأة القانون متلبساً بارتكاب العديد من الجرائم ضد المواطنين.. وفى بعض الأحيان ضد الإنسانية نفسها.. فكان ضرورياً أن يأخذ القانون مجراه وتتم محاسبة من أخطأ حتى يلقى عقابه الذى يستحق. الطريف أن كل القضايا التى يتورط فيها أحد أعضاء جهاز الشرطة لا تسلم من قرار لحظر النشر والذى يصدر بالتزامن مع بدء ظهور اسم وزارة الداخلية فى الموضوع. فكان أول قرار لحظر النشر من نصيب القضية الأشهر منذ قيام الثورة.. وهى قضية مقتل خالد سعيد.. ثم تكرر الأمر فى العديد من القضايا عبر أربع سنوات مضت.. كان أشهرها قضية مقتل ضابط الأمن الوطنى محمد مبروك.. وكان أحدثها قضية مقتل الناشطة شيماء الصباغ، التى تورط فيها أحد ضباط الأمن المركزى.. وقضية مقتل محامى المطرية، التى تم توجيه الاتهام فيها لاثنين من ضباط الداخلية أيضاً. وأنا هنا لا أتهم الجهاز بالكامل بالفساد.. فالداخلية بها العديد من الضباط الشرفاء المخلصين.. ولكن الإعلان عن محاسبة المخطئ فيها لا يعيب الجهاز، بل إنه قد يزيد من احترام المواطن له.. وللنظام بالكامل. ولهذا فسير التحقيقات فى تلك القضايا لن يتأثر بنشر أخبارها.. كما أن متابعة مثل هذا النوع من القضايا تحديداً ربما يمنح المواطن بعضاً من ثقته المفقودة فى جهازه الأمنى.. بعد أن شاب هذه الثقة الكثير من الشكوك فى أعوام الظلام المباركية الماضية. إن منع السلطة الرابعة من أداء مهمتها فى كشف الحقائق للرأى العام ربما يكون فى صالح سير التحقيقات فى بعض القضايا.. ولكن تكرار الارتباط بين حظر النشر واسم وزارة الداخلية فى القضية يضع المحقق القضائى فى حرج الوقوع فى براثن التحيز لطرف بعينه.. فلا أعتقد أن القرار سيصدر إذا كان المتهم شخصاً عادياً. لقد أصبح حظر النشر الذى يكفله القانون للمحقق القضائى ستاراً يدارى به سوأة الجهاز الأمنى فى البلاد.. دون أن يكون لهذا الحظر فائدة أخرى.. خاصة فى عصر يستقى منه المواطن المعلومات من كل مكان بسهولة بالغة.. بل إن قرار الحظر يعظم من فضول المواطن لمعرفة ما استجد فى تلك القضايا.. فيجعله يلجأ للعديد من المصادر التى يمكن أن تحمل الكثير من التدليس والكذب.. وهو ما يضر بصورة الجهاز الأمنى -والقضائى أيضاً- وهو الأخطر من وجهة نظرى. إن قرارات حظر النشر فى القضايا التى تتورط فيها وزارة الداخلية غير صحية على الإطلاق.. فمن حق المواطن البسيط أن يرى من أخطأ يحاسب.. فهذا يزيد من ثقته فى جهازه الأمنى والقضائى وليس العكس.. حفظ الله مصر.