■ كنت ذاهباً لسفر ما، مستقلاً الحافلة. صعدت لأجد رجلاً يجلس أرضاً، انتظر طلوعى ثم صعد خلفى. اكتشفت أنه كان ينتظر اكتمال نصاب «الأوتوبيس» ليبدأ بممارسة مهمته. كان نحيفاً، الشحوب يُطل من عينيه الزائغتين، ملابسه مهترئة.. بقع حمراء تنتشر فى وجهه وذراعه الخارج من الملابس المقطوعة. كان يرتعد من فعل البرد القارس الذى أطل قبل أن تشرق الشمس، يقفز متحركاً على رجل واحدة.. ليس لأنه يقدم عرضاً بهلوانياً.. لكن لأنه كان شحاذاً. لم يمتلك لازمة الشحاذة السينمائية؛ فقد كان أبكمَ. توسلاته تخرج فى صورة حرف واحد هو «الباء». لزوجة الشحاذين لم تختفِ من عنده: كان يهزّ أطراف المسافرين فى عنف يستجدى عطفهم، ويشير بإصبعه المتآكل لفمه إشارةً لجوعه. ويدق على صدره العارى إشارة لفقره فى مواجهة الشتاء. قابله الراكبون، أولهم أنا، بجفاء تقليدى تجاه أمثاله، كانوا يشيحون النظر رافضين الاعتراف بوجوده. أحدهم ينظر تجاه النافذة، والآخر يُحدث زوجته ربما للمرة الأولى منذ ولوجهما، والعجوز يبدى انهماكه فى قراءة جريدة حوادث. والشحاذ يمضى فى طرقة الحافلة يلكز الجالس على الحافة، ويمد ذراعه القصير لينتزع الناظر للنافذة من خواطره. حتى وصل له. كان يرتدى بذلة يلمع قماشها، ويتوسد حقيبته وهو جالس، ينظر لأعلى كأنه مستغرق فى التفكير بالمصير العربى الإسرائيلى. باختصار كان رجل أعمال من هؤلاء الذين يفخرون بذلك. عندما وصل له الشحاذ ولامس بجلبابه ذى الرائحة العفنة، ويده القذرة البدلة؛ صرخ الرجل، وقام من مقعده دافعاً الشحاذ بيديه، فسقط أرضاً. توقف حرف «الباء» من حلقه، واختفت عرجته. لم يكمل الطريق لنهاية الحافلة. وخرج منها تتابعه أنظار الراكبين الذين لم ينبس أحدهم ببنت شفة. ■ نظرت للنافذة، فتحتها قليلاً لعل نسيم الهواء البارد يُذهب ما حدث منذ قليل. ملابسى الخفيفة، وضجر الجالس بجوارى أجبرانى على غلقها ثانيةً، لكننى واصلت التطلع من خلالها. لماذا تأخر السائق رغم اكتمال عددنا؟. هؤلاء السائقون لديهم ولع سادى بتعذيب ركابهم وإحساسهم بأن مهنة السائق هى المتحكمة فى مصائر حياتهم. وأنا أسبّ السائق فى سرى لمحته. كان أرضاً. لونه مزيج بين الأصفر الباهت والأبيض. شعره يهتز بفعل الهواء الثليجى، ويرتجف هو لعدم مقدرته على إيجاد سبيل للتدفئة. كان يشم التراب بأنفه الدقيق، ويلعق التراب بلسانه؛ ليكتشف أنه ما زال صغيراً بعد على اكتشاف رائحة الطعام. أخذ يرفع قدمه اليسرى للطرف الخلفى ويهزها فى عنف. لم أدرِ هل يفعل ذلك من فرط البرد أم الجوع.. أم كليهما معاً. أخذ ينبش بلسانه فى حجر أبيض عملاق، لعل أحدهم قد سكب عليه شيئاً يستطيع لعق فضلاته. لمحت الإحباط فى صوته الذى لم يرتقِ بعد لرعب البشر. حضر سائق «الأوتوبيس» أخيراً بسيجارته. بدأ فى التحرك فجأة فدهسه تحت صرير عجلاته. لم يعبأ بما فعل.. وقفزت برأسى من النافذة لأشاهد بقاياه فى الأفق: جرو صغير طغى لون الدم الأحمر على بهتان أصفره وأبيضه، وخرجت أمعاؤه التى شقّتها عجلات الحافلة. عندما دققت النظر وجدت من يعبث بتلك الأمعاء. كان رجلاً نحيفاً شاحباً يتصنّع المشى على قدم واحدة.