هدأت قليلاً نفوس المصريين، لقد رأوا الدولة تتحرك بسرعة وحسم للرد على عمل إرهابى بشع أودى بحياة 21 مصرياً، كل جريرتهم أنهم يبحثون عن لقمة عيش تحولت إلى نهاية مأساوية. فالضربة الجوية لم تكن عملاً عسكرياً استهدف مرتكزات وأسلحة لمجموعة إرهابية وحسب، بل كانت عملاً متشعب المستويات، ومن بينها احتواء غضب الرأى العام، الذى وصل إلى أعلى درجاته، وكان مشفوعاً بشعور جارف بأن الدولة فى مصر عاجزة ومترددة وغير قادرة على حماية أبنائها. ثم جاءت الضربة الجوية لمعاقل إرهابية لتحول هذا الشعور إلى نوع من الرضاء وتأييد للقرار ولمن أصدر القرار. وبات على الذين أفتوا بأن شعبية الرئيس قد تدنت أن يراجعوا أنفسهم قليلاً. الضربة الجوية ضد معاقل إرهابية تهدد أمن مصر وحياة أبنائها فى بلد عربى يعيش مرحلة فوضى عارمة مهمة بالقطع، ولكنها ليست كل شىء. والتفكير فى الخطوة التالية هو الأهم. فالمعارك والحروب ضد تنظيمات القتل والترويع والنهب والسلب مثل تنظيم «داعش» ونظرائه ليست من قبيل معارك الضربة القاضية، بل هى معارك تأخذ وقتاً وجهداً وتتطلب عملاً جماعياً منظماً ومستمراً لفترة من الزمن، إضافة إلى إرادة حديدية وموارد معقولة يُعتد بها، وغطاء دولى وأممى، يضاف إلى ذلك أن الوضع الليبى نفسه يمثل بيئة مثالية لمثل هذه التنظيمات، فالمساحة شاسعة، ومؤسسات الدولة فى حكم العدم، والفراغ عادة يستدعى من يملأه، ناهيك عن أن تنظيمات الإرهاب، التى تعلمت كوادرها على أيدى أجهزة مخابرات عاتية، هى بمثابة تنظيمات بارعة أصلاً فى خلق الفراغ ولو فى مساحات محدودة أولاً، ثم تتسع رويداً رويداً، كما هو الحال فى سوريا والعراق ثم اليمن. مثل هذه السمات الكلية للحالة الليبية لا بد أن نتذكر تفاصيلها جيداً حين نتحدث عن أى تحرك مصرى مستقبلى. وهى سمات تتطلب منا جميعاً شعباً قبل الحكومة أن ندرك جيداً أن الانتصار فى هذه المعركة لن يحدث بين يوم وليلة، وأنه يتطلب حالة توافق وطنى عام قوامه أن مصر فى حالة حرب بكل معنى الكلمة، وبالتالى وضع أولويات المجتمع بما يتناسب مع مواجهة ممتدة ضد قوى ظلامية عنيدة وما تنطوى عليه من تحديات وتهديدات وتضحيات. ولعل الإعلام هنا بمعناه العام يتحمل شقاً كبيراً من مسئولية الإعداد النفسى الجمعى للمجتمع لحالة حرب من نوع خاص ولكنها طويلة نسبياً، وهو إعداد يفرض على كبار الإعلاميين والقنوات المختلفة الابتعاد تماماً عن المنافسة من أجل الإثارة وإشباع روح المغامرة وإعلاء حالة السخط بين المواطنين، وعدم الوقوع فى فخ إشاعة السخرية لمن هم فى موقع المسئولية، أو التهوين من الثمن الذى يجب دفعه وصولاً إلى حالة انتصار على إرهاب أسود خبيث، أو تحميل السلطات المعنية أكثر مما تحتمل من طاقة وجهد من أجل إهانتها، ومن ثم نيل بعض التصفيق والإعجاب اللحظى والعابر والمدمر أيضاً. وفى المقابل فالمطلوب هو التركيز على ما يجمع المصريين، ويثبت حالة الوفاق فيما بينهم، ونصح السلطات والقائمين عليها بلغة علمية وعملية تتوخى الصالح العام، ورصد السلبيات دون تهويل ووضعها فى حجمها ووضعها الطبيعى، وإعلاء روح المسئولية الوطنية لدى المشاهدين والمستمعين، وإشاعة التنوير بطبيعة اللحظة الحرجة التى تمر بها البلاد، وما تتطلبه من تضحيات قسرية قد تُبذل فى مرحلة ما. إن معارك ما يسمى بالجيل الرابع، التى تعنى مواجهة قوى سرية وغير منظمة ومنتشرة فى أكثر من بقعة، تفرض مواجهة من نوع خاص جداً، التحركات المنفردة فيها لا تجدى ولا تفيد، حتى ولو حققت بعض الإنجازات السريعة. ففى ليبيا، على سبيل المثال، فإن حالة انعدام المؤسسات وما خلّفته من فراغ جذبت قوى وتنظيمات الإرهاب عبر الحدود الجنوبية الليبية، يعنى هذا بالمقابل أن ضبط هذه الحدود يتطلب أولاً وبحسم تعاوناً كاملاً من دول الجوار وهى مالى وتشاد والنيجر، إضافة إلى الجزائر والسودان، وبالتالى فإن تحركاً مصرياً فى اتجاه هذه الدول يبدو ضرورياً سواء لأمننا القومى أو لأمن هذه الدول أيضاً. والفكرة هنا ببساطة هى البناء على ما هو مشترك مع دول أخرى من أجل تحقيق مصلحة عامة للجميع. وقس على ذلك ما يجب فعله فى الإطار العربى وتحت مظلة الجامعة العربية، فإن دعم الاستقرار فى ليبيا والقضاء على آفة الإرهاب فيها يتطلب بدوره التزاماً عربياً قوياً وشفافاً، وفى البداية منه وقف أى دعم مادى أو معنوى أو إعلامى لأى من التنظيمات الإرهابية العاملة فى الأراضى الليبية، كالذى تفعله قطر على سبيل المثال مع قوات فجر ليبيا الإخوانية الإرهابية. إن الالتزام بوقف دعم أى جماعة إرهابية تعمل فى ليبيا ليس إلا نقطة بداية، على أن يصاحبها التزام بدعم الحكومة الشرعية سياسياً وعسكرياً وإعلامياً والتى تدير أحوالها من مدينة طبرق إلى أن يتم تطهير العاصمة طرابلس من ميليشيات الإرهاب والتطرف. فضلاً عن تقديم مساعدات لبناء المؤسسات الليبية وفق برنامج زمنى وبرعاية عربية. ونظرياً فقد يفضل البعض أن تتم بعض أو كل هذه الخطوات ولكن بعد أن يتم التوصل إلى اتفاق توافق بين الأطراف الليبية تحت رعاية الأممالمتحدة، ومن حيث المبدأ فإن تحقيق التوافق يعنى إنجاز نصف المهمة، ولكن ما الذى يمكن أن يحدث إن تعثر مثل هذا التوافق الليبى - الليبى، وطال زمن الوصول إليه، وهو أمر محتمل وبقوة نظراً لأن ميليشيات التطرف والإرهاب والجماعات المسلحة ذات الطابع القبلى لا تؤيد التوافق العام وتعمل على إفشاله؟! بالتالى تصبح مهمة القضاء على هذه الجماعات شرطاً أساسياً قبل الوصول إلى حالة التوافق الوطنى المستهدفة. ومثل هذا التداخل بين ضرورة القضاء على تنظيمات الإرهاب وضرورة السعى الجاد للوصول إلى توافق بين القوى الليبية المتصارعة يمثل واحدة من تعقيدات الحالة الليبية التى يجب مواجهتها، ووضعها فى الاعتبار عند التفكير فى أى تحرك مستقبلى، والبحث عن حلول عملية لها. والمؤكد هنا أن التغافل عن المنظمات الإرهابية فى ليبيا سيقود إلى تدمير البلاد ويحولها إلى مقر للإرهاب العالمى، ومصدر تهديد دائم للأمن المصرى، وهو ما لا يجب السماح به بأى حال من الأحوال.