صراخ وحناجر بُحت أصواتها وهى تنادى على من رحلوا غدراً. نساء ورجال وعجائز وشباب يتكوّمون على أطراف الساحة، أمام الباب الحديدى ذى النافذة الصغيرة التى تسمح فقط لجسد متكفن بالدخول والخروج بعد التشريح، فيما ركن الأصدقاء والأقارب أجسادهم المتعبة على السور الخارجى لمشرحة زينهم، البكاء المكتوم سرعان ما يتحول إلى نحيب وسط محاولات خائبة لتهدئة الأمهات الثكلى، الموت يواصل لعبته مع المصريين. وبدا المشهد اعتيادياً، أب مكلوم وأم ثكلى وحزن وصراخ فى انتظار جثامين ضحايا المجزرة الجديدة، وكانوا هذه المرة شباب مشجعى الزمالك، الذين قتلوا فى استاد الدفاع الجوى مساء أمس الأول، فيما كان خطؤهم الوحيد هو الذهاب لمشاهدة مباراة فى كرة القدم، بين الزمالك وإنبى فى الدورى العام، فيما روى شباب الرابطة الناجون من «المذبحة» الجديدة لحظات الرعب فى ممر الموت فى استاد «30 يونيو». وقال ضياء عبدالرحمن، أحد شهود العيان، الذين نجوا من المجزرة: إن الجمهور تكدّس بأعداد كبيرة فى الممر المؤدى إلى الاستاد، بينما كانت قوات الداخلية تنصب أقفاصاً حديدية فى نهاية الممر، وتقف خلفه مدرعة شرطة، وفجأة ودون سابق إنذار أطلقت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع وطلقات الخرطوش، مستنكراً ما تردّد عن أن الجمهور كان يرفض تقديم التذاكر وقاموا بالتجمهر أمام قوات الأمن والاعتداء عليهم، متابعاً «كنا نازلين فى ممر منحدر ناحية الاستاد، وفجأة ضربت الشرطة قنابل غاز علينا من ورا ومن قدام»، مشيراً إلى أن السبب الذى نجّاه من الموت مثل بقية أعضاء «وايت نايتس» الذين لاقوا حتفهم، أنه كان ممسكاً بسور حديدى تمكن من القفز عبره والنجاة من الموت المحقق الذى حصد 22 من أعضاء الرابطة. وتابع: «مين قال إن اللى ماتوا مش معاهم تذاكر، دول هما اللى ماعرفوش يدخلوهم»، مضيفاً أن أحد المشجعين كان يحاول الدخول إلى الاستاد على كرسى متحرك. ويضيف «عبدالرحمن»، أن قوات الأمن لم تكتفِ بإطلاق الغاز المسيل للدموع على جماهير الزمالك من الجهة الأمامية فقط لكى تتراجع الحشود، لكنها ظلت تطارد الجماهير فى الوقت الذى كانت تحاصر فيه قوات شرطة أخرى من الخلف خارج البوابة، مشيراً إلى أن قوات الداخلية ظلت تلاحق الجمهور حتى بعد خروجه من الممر، وظلت تلقى قنابل مسيلة للدموع خارج الممر باتجاه الشارع. وقال مصور بأحد المواقع الإلكترونية الإخبارية، إنه شاهد تفاصيل مذبحة «استاد الدفاع الجوى» حينما كان ينقل أجواء استعداد المباراة، وشارك الجمهور لحظات الدخول إلى الاستاد، مشيراً إلى أن الجماهير تكدّست بأعداد تصل إلى الآلاف فى ممر ضيق وطويل، وأكدت قوات الأمن أنها ستفتح بوابة أخرى للدخول، وأن عليهم الانتظار، لكن بمرور الوقت كانت الأعداد تزداد والتدافع يستمر، حتى بدأت الاشتباكات بين الشرطة والجماهير، استخدمت خلالها قوات الأمن قنابل الغاز التى قتلت أعداداً كبيرة من الجماهير، لافتاً إلى أن الجماهير تنوّعت ما بين شباب ورجال وبنات، كاشفاً عن استخدام الشرطة المفرط للقوة وإطلاق الخرطوش، مضيفاً أنه كان على وشك إلقاء القبض عليه، ولكن تمكن من الخروج سالماً حينما أوقفته الشرطة، وكشف عن هويته الإعلامية، قائلاً: «أنا شيلت الكارت من الكاميرا علشان ماتشوفش الجرائم اللى أنا صوّرتها ليهم، وبعد ما فتشت الكاميرا سابونى»، مضيفاً أن الممر كان به شباب وفتيات، وكان بهم من يحمل تذاكر دخول وليس فقط من كانوا يمتنعون عن تقديم التذاكر. وأضاف «المصور» أن الداخلية لم يقتصر عنفها المفرط على استخدام قنابل الغاز فقط، بل قامت إحدى سيارات الشرطة بالعودة من الخلف إلى المتظاهرين وقامت بالاصطدام ودهس عدد من الجماهير، إلا أن بقية الجماهير تمكنت من إحراقها بعد فرار سائقها من السيارة. وروى سعيد عبدالحميد، 28 عاماً، يعمل فى إحدى شركات الكمبيوتر فى قطاع التسويق، وأحد مشجعى نادى الزمالك من «وايت نايتس»، تفاصيل الحادث المؤلم، بدءاً من تجمّع الجمهور عند الساعة ال4 عصراً، وحتى وقوع الاشتباكات فى الساعة السادسة تقريباً. وتابع «عبدالحميد»: «أنا من المعادى وعرفت أن التجمع هيكون الساعة 4 فى الممر المقابل للاستاد»، مشيراً إلى أنه وصل بصحبة ثلاثة من رفاقه من «المعادى»، ووصلوا إلى الممر فى الساعة الرابعة والنصف، وأن أعداد الجماهير ظلت فى تزايد مستمر دون أى إحساس من الجهات المعنية بضرورة الإسراع فى دخول الجماهير، حرصاً على سلامتهم من الزحام والتدافع. وتابع قائلاً: «فجأة الغاز انضرب وبقى الكل يجرى فى حالة لا وعى، وكان الناس بتدوس على بعضها، وتموّت نفسها»، لافتاً إلى أنه كان يصعب إنقاذ أى من المصابين، لأن محاولة الإنقاذ هى قرار بالانتحار. ويضيف «عبدالحميد»: «أنا شوفت ناس بتموت تحت رجلى بس ماقدرتش أنقذهم، لو كنت ساعدتهم كنت هموت زيهم»، مشيراً إلى أن الداخلية تعاقب ال«وايت نايتس» على مشاركتها فى ثورة 25 يناير، كما عاقبت ألتراس أهلاوى، وكما عاقبت الإخوان والحركات السياسية التى شاركت فى الثورة، لافتاً إلى أن عملية الفض لم تستغرق أكثر من 10 دقائق بحد أقصى، موضحاً أن أعضاء ال«وايت نايتس» لم يعملوا لصالح أى أهداف سياسية تخدم فصائل بعينها، وأن الحادث كان مدبّراً من الشرطة، التى بدأت فى الضرب دون أى تنبيه أو إنذار، متابعاً: «الشرطة ضربت غاز وخرطوش وفضت الجماهير، ولما فيه 2 رجعوا يسحبوا المتوفين والمصابين، الشرطة ضربت عليهم غاز تانى وطاردتهم»، مستنكراً الطريقة التى تعاملت بها الشرطة مع المصابين والقتلى الذين يحتاجون إلى مساعدة زملائهم لمعالجتهم أو سحبهم من أرض الممر، قائلاً: «أنا باعتذر للناس اللى سيبتهم يموتوا، وباعتذر لأهلهم إنى ماقدرتش أنقذهم»، مضيفاً أنه تمكن من الهرب بعد أن خرج وقفز من السور الجانبى، ثم تمكن من الهروب بعيداً عن مرمى الشرطة، وتمكن من ارتداء «تيشيرت» على «فانلة» الزمالك، حتى لا يتم القبض عليه. وتابع: «كانت الشرطة بتقبض على اللى بتشوفه، وشوفت 15 واحد ميتين على الأرض، ولما حد جه ينقذهم الشرطة قبضت على 2 منهم كانوا لابسين فانلات الزمالك». واستنكر «عبدالحميد» تصريحات وزارة الداخلية عن اعتداء الجماهير على قوات الشرطة، مضيفاً أن الاعتداء لم يكن حلاً مطروحاً لأعضاء الرابطة، قائلاً: «لو كان هدفنا الاعتداء، ماكانش العدد ده كله مات، ولا كانت الناس دى كلها رجعت، ولا كان الماتش اتلعب، مطالباً النائب العام بإصدار قرار ضبط قيادات أمن الاستاد، مثلما أصدر قراراً بضبط قيادات «وايت نايتس»، موضحاً أن جماهير الزمالك كانت تحت حماية وزارة الداخلية، وسلامتهم تقع على عاتق وزارة الداخلية، بينما هى من اعتدت عليهم وقتلت 22 منهم، مشيراً إلى أن أكثر من 2000 شخص تم فضهم فى أقل من 5 دقائق، مضيفاً أنه يرغب فى التخلى عن جنسيته المصرية. وحول ما تردد عن عدم امتلاك جماهير النادى الزمالك تذاكر، أوضح «عبدالحميد» أن رئيس نادى الزمالك، قال إن تذاكر المباراة مجاناً، وإن المباراة دون رسوم تذاكر، وإن الذى يريد أن يحصل على تذكرته المجانية يذهب إلى نادى الزمالك والتوقيع على الاستمارة وتقديم 4 صور شخصية، وهو ما لم يوافق عليه أعضاء الألتراس.