لحبى وتقديرى الشديدين للرئيس المصرى الراحل محمد أنور السادات تلاقت رغبتى ورغبة إحدى شركات الإنتاج التليفزيونى فى كتابة سيناريو مسلسل يحكى قصة حياة السادات الذى ما زلت أعتبره أذكى وأعظم وأخلص حكام مصر، والذى ما زلت أعتقد أنه كان يعشق تراب مصر وهو يحكمها.. ولأن الحاكم ما هو إلا بشر يصيب ويخطئ فقد كانت له أخطاؤه التى أعتقد أن أبشعها أنه أتى بمبارك من بعده.. وأعتقد أنه لو كان يعلم الغيب ما أتى به على الإطلاق. المهم أننى، وقبل أن أشرع فى كتابة سيناريو مسلسل السادات، وكان ذلك منذ حوالى 7 سنوات، كان لزاماً علىّ أن أقرأ باستفاضة وعمق كل ما كتبه السادات وكل ما كُتب عنه، وكان لزاماً بالطبع أن أقرأ بإمعان كل ما كُتب عن ثورة 1952، وكذلك أن أقرأ كثيراً عن مصر قبل ثورة 1952.. وقد أخذ هذا كله منى جهداً ووقتاً طويلاً، وكان نتاجاً لكل هذه القراءات ونتاجاً لقراءات الواقع منذ سبع سنوات (أى قبل ثورة 2011 بحوالى ثلاث أو أربع سنوات) أن وجدت نفسى وقد اقتنعت اقتناعاً كبيراً وتكوّنت قناعتى بأن ثورة 1952 كانت دماراً ووباء حاق بمصر.. وجدت نفسى بين خيارين، إما أن أكتب ما وجدته فى كتب التاريخ وبين سطورها واقتنعت به من أن سلبيات ثورة 1952 أضعاف مضاعفة لإيجابياتها، وسيكون فى ذلك تناول سلبى وواقعى لشخوص الضباط الأحرار، بمن فيهم جمال عبدالناصر وأنور السادات.. أو أن أكتب من خلال المعلومات السطحية التى ترددت عن عصر الظلام الذى بددته ثورة 1952.. والحقيقة أننى فضّلت وقتها أن أكتب من خلال وجهة نظرى التى كوّنتها من كثرة الاطلاع والبحث فى فترة ما قبل ثورة 1952 وفى فترة ما بعدها.. ولكن لم تلق وجهة نظرى حماس الشركة المنتجة، لذلك فضّلت الانسحاب، وإن كان المشروع ما زال يلح على أم رأسى أن أكتب عن مصر، كيف كانت قبل ثورة 1952، وكيف كانت بعدها، وماذا اقترفه فى حقها هؤلاء الذين ما زالت كتب التاريخ تضفى عليهم لقب الضباط الأحرار.. ومفاد القول: لنا أن نعرف أن مصر قبل ثورة 1952 كان بها نظام ديمقراطى يسمح بتداول السلطة، وكانت بها أحزاب قوية لها وجهات نظر وليست أحزاباً من ورق على ورق، وأن الفساد فى مصر كانت نسبته ضئيلة للغاية بالنسبة للفساد الذى شهدته مصر على أيدى الضباط الأحرار ومن لحقوا بهم، وأن مصر كانت منظومة التعليم بها فى عنفوانها وتواكب نظم التعليم فى الدول المتقدمة (ومن لا يصدق فليسأل جده ماذا كان يتعلم فى المدارس والجامعات قبل ثورة 1952 وكيف كان حال المدارس والجامعات)، ولينظر بعد أن يستمع لجده إلى حال منظومة التعليم الحالية المهترئة.. والدليل الواضح على سلامة الحالة الصحية لمنظومة التعليم أيامها أن تلك الفترة أنجبت لمصر عباقرتها أمثال الدكتور مشرّفة وطه حسين والعقاد والحكيم والتوأمين مصطفى وعلى أمين وعشرات الذين فى مثل قامتهم والذين ما زلنا نباهى بهم الأمم، حتى أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، حتى إسماعيل يس وشكوكو وعظماء الفن الجميل هم نتاج المنظومة التعليمية والثقافية لمرحلة ما قبل ثورة 1952.. وأعتقد أننا إذا حاولنا إحصاء العظماء الذين أفرزتهم الحقبة الزمنية ما قبل 1952 فإن مساحة صفحة كاملة فى الجريدة لن تكفى لأن نحصى أسماءهم.. ويكفى أن نذكر طلعت حرب وسياساته الاقتصادية، وغيره الكثيرون. أما حقبة ما بعد ثورة 1952 وحتى الآن فأعتقد أنها لم تفرز إلا النادر للغاية من أمثال هؤلاء.. وكل ما أفرزته إن هم إلا أقزام أمام أمثال العظماء الذين أفرزتهم حقبة ما قبل ثورة 1952.. حتى جمال عبدالناصر وأنور السادات إن هم إلا إفراز حقبة ما قبل ثورة 1952.. وصدقونى: كذب من قال إن مجانية التعليم كانت نتاج ثورة 1952.. وكذلك كذب من قال إن استشراء المحسوبية والفساد كان من سمات عصر ما قبل 1952. مجمل القول، يا سادة، أنه يكفى أن مصر واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كانتا مرشحتين من قبَل هيئة الأممالمتحدة وهيئاتها، لأن تلحقا بدول العالم الأول، وجاء فى هذا التقرير أن فرصة مصر أعظم كثيراً بسب الدمار الذى لحق باليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. ومجمل القول أيضاً أننا بكل هذه الأدلة فى حالة انهيار وتقهقر، بدليل أن الماضى بكل المقاييس كان أروع وأعظم وأجمل باعترافنا جميعاً.. وكدليل على ذلك يصعب أن تسمع من أى مواطن غير المواطن المصرى أن الماضى كان أفضل.. الجميع مجمعون على أن الماضى كان أسوأ أو أن الحاضر أفضل وأن المقبل أفضل وأفضل، إلا نحن لأن واقعنا يقول بالفعل إن الماضى كان أفضل، ولذلك فمنذ ثورة 1952 والعربة ما زالت تتدحرج بنا نحو الهاوية.. والحل هو أن نستلهم من الأمم التى كانت أحوالها مشابهة لحالتنا كيف استطاعت تلك الأمم كماليزيا والصين وغيرهما بناء حضاراتها المعاصرة العملاقة فى سنوات قليلة.. ولكل من يصرخ بصوته الأجوف ممجداً ثورة 1952 عليه أن يقرأ ماذا كانت عليه مصر قبل تلك الثورة وماذا أصبحت عليه بعدها، وليقرأ ما بين السطور فى كتب التاريخ.. فالتاريخ، مهما زيّفوه وزوّروه، ستظل حقائقه جلية لمن أراد أن يصل إلى حقيقة الأشياء. والله سبحانه وتعالى من وراء القصد..