كان الموعد الثانى بين إبليس والشيطان، صديقه الحميم، فى أحد الأندية الرياضية، حيث المساحات الخضراء وجلسات النميمة حول المناضد وتحت الشماسى المنتشرة فى أرجاء المكان.. كان إبليس متلألئاً، عيناه يشع منهما بريق غير عادى، وكان واضحاً أنه بيّت النية على مناقشة موضوع مهم.. قال الشيطان: أراك متحفزاً.. ماذا وراءك؟ إبليس: أفكر فى مسألة تهمنى وتشغلنى. الشيطان: ترى، ما الهم الذى يشغل بال عمنا؟ إبليس: ما يشغلنى هو كيف لإنسان أو مجموعة من البشر أن تسيطر على عقل إنسان وتتحكم فيه، وبالتالى تطويعه، فلا يستطيع أن يفكر بشكل مستقل، ومن ثم تجعل صاحبه فرداً فى قطيع، يسمع ويطيع.. ينفذ دون وعى ما يطلب منه؟ ثم ما دورنا نحن فى ذلك؟ بمعنى: هل نستطيع أن نسهم فى إتمام عملية السيطرة، وكيف؟ وهل ذلك يخدم أهدافنا؟.. الشيطان: هو فعلاً موضوع مهم، على الأقل سوف يفيدنا فى التعرف على الأساليب المختلفة فى كيفية تطويع العقل البشرى. إبليس: نحن قمنا بعمل دراسة على هذه الأساليب، وأستطيع أن أقول إنها لا تخرج عن تطبيق السياسة المعروفة بالترهيب والترغيب، أو العصا والجزرة، أو سيف المعز وذهبه، إضافة إلى استغلال السقطات الأخلاقية أو المالية التى وقع فيها الإنسان فى الضغط عليه وابتزازه، وربما لتوليه بعض المناصب.. ولا شك أن شبق الإنسان تجاه منصب أو مال يمكن أن يكون سبيلاً ممتازاً للسيطرة عليه والتحكم فيه.. قد يصلح الترهيب مع إنسان، والترغيب مع آخر، وقد يتم استخدام الاثنين معاً.. ويختلف الترهيب بين مادى ومعنوى، بين مشاهد وغيبى، بين واقع وخيال، وهكذا.. بالطبع يحتاج من يقوم بتنفيذ هذه السياسة إلى أن يكون خسيساً أو دنيئاً.. صمت قليلاً، ثم قال (بخبث): أو من جنسنا.. الشيطان (ضاحكاً): لعله لا يغيب عنك يا شيخنا أن من أبالسة الإنس وشياطينهم من يفوقوننا بمراحل فى الأفكار والوسائل.. أحياناً أقول لنفسى: أين تعلم وتدرب هؤلاء، وأين اكتسبوا هذه الخبرة العظيمة؟ إبليس: لا تنس يا صديقى العزيز أننا قريبون منهم.. نجرى فى ضمائرهم، وعقولهم.. هل نسيت أن أبانا إبليس الكبير توعدهم كما ذكر ربنا فى كتابه الذى نزله على «محمد»؟! الشيطان: نعم.. نعم.. وأرى يا شيخنا أن السقطات والزلات التى يقع فيها الإنسان مهمة للغاية، وتحتاج أن نركز عليها.. إذ لا يكفى أن ننتظر حتى تزل قدم صاحبنا، بل علينا أن نهيئ السبيل للتعجيل بذلك، وبدلاً من أن تكون زلة بسيطة، نستطيع أن نجعلها فضيحة بجلاجل.. إبليس: أوافقك على ذلك تماماً.. لكن، أرجو أن تعلم أنه ليس كل ترهيب أو ترغيب فيه ضرر للإنسان، فالترهيب من تعرضه لسخط الله، والترغيب فى نيل رضاه، كلاهما فيه خير للإنسان، وهو ما لا نريده، بل نعمل على تعويقه بأى وسيلة. الشيطان: نحن لدينا فى هذا نظريتان يا مولانا؛ أولاهما: الوحدة والفراغ، وثانيتهما: قرناء السوء.. إذ كلما كان الإنسان وحيداً ولديه فراغ، كان ذلك أعون لنا على اللعب فى رأسه والتأثير فيه.. ألم يقل نبيهم «محمد»: الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب؟ وألم يقل أيضاً: نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل؟! أما النظرية الثانية فهى أن قرناء السوء يقومون بدور أعظم مما نقوم به نحن، لذا نهاهم نبيهم عن ذلك فى حديثه المشهور: مثل الجليس الصالح.. والجليس السوء.. إلخ. إبليس: نعم.. نعم.. لقد تاه ذلك عن بالى.. أنت يا صديقى داهية. الشيطان: منكم نتعلم يا شيخنا.. إن تاريخنا مع بنى آدم ملىء بالدروس والعبر.. هل نسيت ما فعله أبونا الكبير مع آدم لكى يخرجه وزوجه من الجنة؟ إبليس: لا، لم أنس.. لكنى أبحث عن أفكار ذات نتائج مضمونة، وأعتقد أن إيقاع الإنسان فى بئر الخيانة؛ خيانة الوطن، أو الأهل، أو الأصدقاء، أو الأمانة، أو المبادئ، سوف يجعله منبوذاً ومكروهاً من الجميع، حتى من نفسه.. منى عينى أن أراه مشيعاً إلى قبره مصحوباً بكل اللعنات.. الشيطان: اطمئن يا صديقى.. نحن نطبق فى هذا المجال نظرية لا تخيب أبداً، وهى نظرية «الإلهاء والنسيان».. إبليس: وما علاقتها بما نتحدث عنه؟ الشيطان: أن الإنسان إذا تم إلهاؤه أو شغله بشىء، غشيه النسيان.. نسيان كل شىء.. كل شىء.. وإذا نسى، باع.. ألا تذكر نسيان آدم تحذير ربنا ووصيته له بألا يأكل من الشجرة وألا يأنس إلينا، وأنه لولا النسيان ما استطاع أبونا الشيطان الكبير أن يصل معه إلى نتيجة؟ إبليس: نعم.. نعم.. لكن من الواضح أن مسألة «الإلهاء» هى الأساس الذى يجب أن نعتمد عليها.. الشيطان: الإنسان يستغرقه ما يحبه ويهواه، والبشر فى ذلك -كما تعلم- مذاهب شتى، فمنهم من يهوى النساء إلى درجة الهوس، ومنهم من يُتيّم بالأولاد فينسى نفسه وأهله، ومنهم من يعشق المال فيقبل على التضحية بكل عزيز.. هل نسيت ما جاء فى قرآنهم من تحذير: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ»، وما جاء من تزيين: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».. لذا أقول: إن لكل إنسان مدخله وطريقة إلهائه. إبليس: أحسب أننا فى أمس الحاجة لأن يتعلم أطفالنا الصغار كيف يبتكرون ويبدعون فى هذه المجالات.. الشيطان: على الرحب والسعة.. فنحن أصحاب جهاد مشترك وأهداف واحدة.. فقط أرسلوا لنا بعضاً منهم واتركوا لنا الباقى.. سنضمهم إلى صبياننا فى مدرسة «الشيطنة»، وسيتعلمون كل فنونها وأساليبها، وسيكتسبون المهارة التى تؤهلهم للانطلاق فى ميادين العمل.. إبليس: متى؟ الشيطان: إن أحببت من الآن.. إبليس: على بركة أبينا إبليس الكبير.. ثم نهض واقفاً.. قال وهو ينصرف: على وعد أن نلتقى غداً. الشيطان: فى انتظار مكالمة منك.