شروخ عميقة فى الجدران، تصدعات فى السقف والأعمدة، تآكل شديد فى درجات وسور السلم، مياه تنخر فى بُنيان العمارة، تتدفق من ماسورة داخل الحوش، تهالك فى جدرانها الخارجية وصل إلى حد تساقط أجزاء من «الطوب».. هكذا هو حال المنزل القديم الذى طمست أرقامه بفعل الزمن فى شارع ترعة الجبل بمنطقة الزيتون، حيث يعيش سكانه فى حالة ترقب دائمة، فى انتظار انهياره فى أى لحظة. «العمارة كلها إيجار قديم، وصاحب البيت من يوم ما بنى دورين مخالفين والحكومة شالتهم، وإحنا عايشين فى كابوس الموت»، جملة لخص بها على محمد جمال الدين، أحد سكان المنزل الآيل للسقوط، أسباب تدهور المنزل الذى يسكن فيه أكثر من 30 عاماً، «عشت فيه أنا وعيالى ومراتى طول عمرنا، لحد ما مراتى ماتت وولادى دلوقتى كلهم متجوزين وليهم حياتهم وبيوتهم الخاصة، وأنا اللى عايش لوحدى فى البيت ولو هموت تحت ترابه مش هطلع منه»، مضيفاً: «صاحب البيت كل سنة يعلى الإيجار جنيهين عشان يطفشنا بس محدش بيتكلم، ده إيجار البيت كله على بعضه 25 جنيه فى الشهر، والجنيه دلوقتى مبقاش يعمل حاجة مش أحسن من الإيجار الجديد اللى بيوصل للآلاف، ولو أنا قدرت أدفع، غيرى مش هيقدر، عشان البيت معظمه أسر على قد حالها». لم يكن ضيق الحال فقط هو الدافع وراء إصرار الرجل السبعينى على البقاء فى البيت، دافع آخر جعله أكثر تعلقاً به، فقد مر فى البيت بكل الذكريات الجميلة «الحمد لله ربنا مش مخلينى أحتاج حاجة وأقدر أخرج من البيت وأجيب بيت تانى، بس البيت اللى عايش فيه بيفكرنى بكل ذكرياتى الحلوة اللى عشتها فى الجيش وكنت بنزل إجازات وعيالى يترموا فى حضنى، فضلت من 1962 ل1986 تجنيد واحتياط وحضرت حرب اليمن ومن يوميها وأنا جوّا البيت ده، عشان كده مقدرش أخرج برّاه»، موضحاً: «البيت عشان عمره 50 سنة محتاج يترمم وصاحب البيت مش مهتم، كل ما نكلمه يقول إحنا اللى نصلحه، وأنا كل اللى بعمله أى شروخ بتظهر فى بيتى بحاول أصلحها على قد ما أقدر، لحد ما بنى دورين مخالفين والبيت بدأ يبقى فيه فوارغ فى الحيطان من برّة وجوا البيوت كمان، وحتى لما الحكومة شالتهم من قبل ما يكمل بناهم لسّه مأثرين فى البيت لحد دلوقتى». لم يخفِ رعبه من النوم فى البيت الصغير الذى يسكنه بمفرده منذ سنوات، فالنوم خاصم عينى «على»، خوفاً على ضياع ذكرياته تحت أنقاض هذا العقار فى حال سقوطه: «بحب صورتى جداً وأنا بالبدلة العسكرية وكاتب جنبها إنى فضلت 24 سنة مجند احتياطى، تحت صورة الرئيس جمال عبدالناصر اللى حطتها على نفس الحيطة، ده غير صورى أنا ومراتى وعيالى والأيام الحلوة اللى عايش عليها جوّا البيت». محاولات ومساومات عدة من صاحب العقار ل«على» وسكان البيت، ليتنازلوا عن حقهم فى الشقق لهدم المنزل وإعادة بنائه مرة أخرى، «صاحب البيت ما بيحاولش يصلح حاجة، الحوش من يوم ما سكنت وفيه ماسورة حنفية جوّاه كل ما نصلحها تسرب ميّة لحد ما شققت أساس العمارة ومأثرة فيه، ده غير منور العمارة اللى كله ثقوب وفيه طوب واقع منه»، ويضيف: «العمارة كلها دورين غير الأرضى اللى أنا فيه، وكل دور فيه شقتين قصاد بعض، ومفيش ولا حد فيهم بيحاول يساعد وكل ما أحاول أجمع فلوس عشان نصلح البيت ونبقى فى أمان بدل ما يقع علينا زى بيت المطرية، برضه كل واحد فى حاله، فقلت أرضى بالأمر الواقع وأسيبها على ربنا المهم إنى ما أطلعش برّة البيت، ومستنيه يقع فى أى وقت وأموت مع ذكرياتى جوّاه». أرهقها المرض، وأتعبها الانتظار بين الحياة والموت، «كعب داير» من الحى للمحافظة، لتشكيل لجنة معاينة وفحص حالة المنزل بعد إزالة الحكومة طابقين مخالفين بناهما صاحب العقار، لكنها دون جدوى.. هكذا حال الحاجة «زينب»، 54 سنة، من سكان العقار الآيل للسقوط، تروى: «عندى السكر والضغط وعايشة مع عيالى وجوزى المريض اللى ما بيتحركش من مكانه، إحنا ناس على قد حالنا وبقالنا سنين جوّا البيت وطول عمرنا عايشين فيه وما نقدرش نخرج منه عشان استحالة نلاقى إيجار قديم ندفع فيه مبلغ قليل زى اللى عايشين فيه»،. زوج متوفى، ابن عاجز، وطفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، هى كل ما تبقى من زيجة «سعاد»، الأم التى حوَّل المنزل الآيل للسقوط حياتها إلى «جحيم» فالرعب يملأها ويزداد كل لحظة، خوفاً على حياة أبنائها، «مش عارفة أروح فين بعيالى، كل ما أشوف اللى حصل فى بيت المطرية اللى وقع والحوادث اللى عمالة تزيد بسبب البيوت اللى بتقع بخاف أكتر على عيالى، اتجوزت فى البيت ده وما عنديش مكان تانى من بعد جوزى ما مات، وعندى ابنى عاجز عن الحركة ومحتاج علاج ده غير العيشة اللى بقت صعبة»، يبقى السؤال عالقاً فى ذهن الشابة الثلاثينية كل ليلة، هل تجد حلاً ويفرج حالها للخروج من البيت أم تظل مع أبنائها داخل البيت المهدد بالسقوط فى أى لحظة، «عارفة إن البيت ممكن يقع فى أى وقت فوق دماغى أنا وعيالى لكن ما باليد حيلة، وراضية إنى أخرج برة البيت زى ما صاحبه عايز بس يجيب لى شقة إيجار زى اللى أنا فيها ويدفع مقدمها أو يديهولى». «بحس إن السلم هيقع بيا كل ما أطلع وأنزل عليه، وفى مرة جيت أسند على سور السلم لقيته بيتحرك»، قالها «محمد» -أحد سكان العقار الآيل للسقوط- الذى يسكن فى الطابق الثانى ويعانى يومياً من درجات السلم، «أنا الوحيد اللى متضرر من كل حاجة، فوقى لما اتبنى الدورين المخالفين بقت التشققات فى كل حتة فى سقف بيتى وحاسس إنه هيقع فوق دماغى أنا ومراتى، ده غير السلم اللى متلخلخ من مكانه اللى بنطلع عليه كل يوم، وفى مرة لقيت عيال كانوا بيلعبوا ويزقوا بعض على سور السلم وكان هيقع بيهم». «البيت زى الفل واللى فيه مش مسئوليتى، اللى عايشين فيه المفروض اللى يخرّب فيه حاجة يعدلها، وزيادة الإيجار دى زيادة طبيعية»، قالها صاحب البيت، طلب عدم نشر اسمه، موضحاً: «كنت الأول بعمل ترميمات كل فترة فى البيت، والدورين الزيادة اللى كنت هطلع بيهم ما كانوش هيأثروا على البيت ولا حاجة بس الحكومة لما جت هدتهم ما اتكلمتش عشان هى فاهمة عنى وأدرى بالمصلحة العامة للسكان اللى فى البيت وليا»، مضيفاً: «ما أجبرتش السكان على حاجة، وحقى إنى أهد البيت وأبنيه من جديد أو أبيعه».