ضحكات بطعم الوجع وحمد بقلب سكنه الرضا وأحياه الأمل الذى لم ينقطع يوماً.. أول ما يطالعك عند الحديث إليهما، زوجان قد ينظر إليهما البعض بعين الشفقة والعطف ولا يدرى أن وراء معاناتهما وإعاقتهما إرادة تحدت الصعاب وقهرت المستحيل. فى منزل بسيط بحى روض الفرج يسكن «عم محمد»، يعمل بائع ملابس متجول، يعانى إعاقة حركية منذ الصغر نتيجة إصابته بشلل الأطفال، أخفى نصفه الأيسر عن الوجود ليستعيض عنه بعجلة من طراز خاص صممها بنفسه، لا يختلف حاله كثيراً عن حال زوجته «خضرة محمد أحمد» صاحبة الأربعين عاماً التى تعانى هى الأخرى من إعاقة بالنصف الأيسر من جسدها لم تمنعها من ممارسة حياتها بشكل طبيعى شأنها شأن أى بنت وسيدة على وجه البسيطة.. «خضرة» هى الابنة الكبرى لعامل زراعى بسيط، لم تستكمل تعليمها بسبب ظروف أسرتها الصعبة التى دفعتها للعمل كعاملة نظافة فى أحد المساجد.. تهاجمها الآلام ما بين الحين والآخر بسبب المجهود الذى تبذله فى عملها ولكن ما عساها أن تفعل ولا يوجد من يعولها وأمها بعد أن تخلى عنهم الأب.. تمر الأيام لتأتى لها إحدى السيدات بخبر تنتظره كل فتاة «جايلك عريس»؛ يتهلل وجهها فرحاً فقد عوضها الله برجل يعينها على الحياة، ولكن ما لبث أن تحول الحلم إلى وجع فالأمر الذى حاولت نسيانه لم ينسَه «الخطيب» الذى قال لها «مش تحمدى ربنا إنى هاتجوز واحدة معاقة».. جرح غائر لم يندمل يوماً أشعلته هذه الكلمات لتقرر الارتباط بأول من يتقدم لها ثانيةً، سرعان ما استجاب القدر وساق إليها «عم محمد»، تم الزواج ورزقهما الله أربعاً من البنات: «كريمة» طالبة بالصف الثانى الإعدادى، و«فاطمة» بالصف السادس الابتدائى، و«سلمى» بالصف الثانى الابتدائى، و«حبيبة» بالصف الأول الابتدائى. بوجهها الملائكى البرىء استقبلتنا «خضرة» بمنزلها بالطابق الأول لعقار قديم بمنطقة روض الفرج، بخطوات متثاقلة قادتنا السيدة الأربعينية إلى حجرة صغيرة عبر ممر ضيق وضع بجانبه دولاب كبير لملابس أطفالها، أبواب المنزل الداخلية عبارة عن قطع من القماش، غرفة المعيشة التى أعدتها لاستقبال الضيوف ومذاكرة بناتها وهى غرفة نومهم، حياتها تدور داخلها مرتبة ومنظمة. فى حركة لم تسكن منذ الضوء الأول للنهار انتفضت خضرة من فراشها لإيقاظ بناتها الأربع واصطحابهن إلى مدارسهن لتسابق خطواتها المتثاقلة الزمن وتعود إلى المنزل لمساعدة زوجها فى وضع بضاعته على «العجلة» الخاصة به.. ينطلق «عم محمد» متوجهاً إلى ميدان رمسيس حيث يفترش الطريق بجوار محطة المترو ببضاعته، يختفى ما بين الحين والآخر تاركاً إياها لأحد الباعة المجاورين مستأذناً ليؤدى فريضة الصلاة فى المسجد رحلة من المعاناة الدائمة يقضيها «عم محمد» حتى يتمكن من عبور الطريق المزدحم بالسيارات قائلاً «ربنا يرحمنى من بهدلة الحركة فى الشارع كل ما باعدى باكون ماسك قلبى بإيدى عربية تشيلنى وولادى وزوجتى ملهمش حد غيرى، نفسى الدولة تحسسنا إننا بشر وتدينا حقنا ومتكونش هى والإعاقة علينا.. إحنا ما اخترناش إننا نكون كده، ومن حقنا نعيش زى الناس العادية ويكون لينا مواصلات وحارات مخصصة لحالتنا فى الشوارع زى أى بلد فى العالم، عشان لما أروح أشترى بضاعة ما أستناش حد يشيلنى ويحطنى أنا وعجلتى»، بنبرة يسكنها الألم يواصل «عم محمد»: «فيه مساكين كتير زيى ومفيش حد حاسس بينا وبنتعرض للمهانة من البلدية والشرطة كأننا حيوانات ملناش تمن، ومع ذلك مصرين ناكل لقمتنا بالحلال ومن عرق جبينّا ومنمدش إيدينا لحد، كنت بألمّع جزم لكن خُفت على شعور بناتى وقررت أبيع ملابس عشان يكونوا فخورين بأبوهم وميتكسفوش قدام زمايلهم فى المدرسة». وتقول «خضرة» زوجته: «بأعوّدهم إنى صاحبتهم ميخبوش عنى حاجة لأنهم فرحة عمرى اللى ربنا عوضنى بيهم بعد ما فقدت الأمل وبحمد ربنا إنهم مطلعوش زيى أو زى أبوهم وكلهم بيمشوا ويتحركوا زيهم زى باقى الأطفال، الناس كانت بتقول إنى هاخلف عيال معوقين زينا لكن الحمد لله ربنا كرمنى بيهم الأربعة مفيهمش حاجة، نفسى أعمل لهم اللى أهلى معملوهش معايا وميكونوش محتاجين لحاجة». تواصل «خضرة»: «أول ما اتجوزنا عِشنا فى أوضة فى بيت قديم مكناش بنلاقى اللقمة الحاف ومكنتش بأرضى أروح عند أهلى عشان محدش يجرحنى أو يجرح زوجى بكلمة ويقول لى ده اختيارك.. كنت بأقول يا رب وعارفة إنه مش هيسيبنا». الحصول على سكن آمن لبناتها حلم طالما سعت وزوجها لتحقيقه، قائلة: «قدمنا على شقق فى الإسكان من سنة 1990 تبع ذوى الاحتياجات الخاصة كانوا يقولوا لنا تعالوا الشهر الجاى واللى بعده ولحد دلوقتى مفيش أى نتيجة، أنا من يوم ما وعيت على الدنيا محدش عمل لى حاجة ولا ساعدنى.. هو المعاقين مش مفروض بشر وليهم حقوق فى البلد؟!».