داخل حجرات من الطوب اللبن القديم، تحت أسقف من البوص وعروش النخيل، خلف أبواب خشبية تهالكت بفعل عوامل الجو والزمن، تقبع آثار مصر التى لا تقدر بثمن داخل مخازن منطقتى «ميت رهينة، وسقارة» بالجيزة، عُرضة للسرقة والنهب. «الوطن» حصلت على صور ترصد الإهمال فى حفظ الآثار داخل مخازن متهالكة، ففى «منطقة آثار ميت رهينة»، تحفظ الكنوز الأثرية داخل مخازن آيلة للسقوط من الطوب اللبن وأبواب خشبية قديمة سهلة الاقتحام والسرقة، خصوصاً أنها دون حراسة، وهو الحال فى مخزنين من أصل 4 بالمنطقة، تضم 12 ألف قطعة أثرية نادرة. وتقع مخازن «ميت رهينة» على بُعد بضعة كيلومترات من المنطقة السكنية، مما يجعلها عرضة لعبث اللصوص، وتضم قطعاً أثرية تم اكتشافها منذ سبعينات القرن الماضى، محفوظة داخل «كراتين زيت الطعام» دون اعتماد أدنى معايير الحفظ الحديثة، وبمقارنة بسيطة بين صور الكشف القديم والصور الحديثة يتبين أن أغلب القطع أصابها التلف والتدمير، حيث تحطمت تماثيل نادرة للمعبودات داخل «مقصورة سيتى» كما تحطمت قطع أثرية من الفخار، وبالرغم من تعرض مخزنى «بترى» و«الهيئة 40» لسرقة 261 قطعة أثرية نادرة، العام الماضى، عقب قيام اللصوص باختراق سقف المخزنين وسرقة القطع الأثرية فى ظل غياب تام للشرطة ووزارة الآثار، التى اكتشفت السرقة بالصدفة أثناء مرور دورى لمفتشيها بالمنطقة، بحسب بيان للوزارة، فإن تلك المخازن لا تزال دون أى تأمين يذكر إلا من خفير يحمل «نبوت»، ورغم اكتشاف هذه السرقة فإن الوزارة لم تتخذ أى إجراءات تأمينية للمخازن أو نقل باقى القطع الأثرية إلى مخازن جديدة، بالرغم من امتلاك الوزارة ل26 مخزناً متحفياً بتكلفة 5 ملايين جنيه للمخزن الواحد. الإهمال لم يتوقف عند هذا الحد، بل تخطاه إلى طريقة التخزين المهينة للآثار، التى تهدد بتلف وتدمير مئات القطع الأثرية داخل تلك المخازن، لأن أغلب القطع مخزنة داخل «كراتين» زيوت وحقائب من البوص، أما لجان الجرد التى تعاين المخازن حالياً، ومن المفترض أن تكون أكثر الجهات حرصاً على حماية وحفظ وإنقاذ الأثر، فتتعامل معها بغاية الإهمال، لدرجة وصلت إلى دهس الآثار بالأقدام والجلوس والوقوف عليها وإلقائها بدون عناية، إضافة إلى ظروف تخزينها بطرق فى غاية السوء، فى مخازن بلا أجهزة لسحب الرطوبة والحرارة، ونظراً لأن الأسقف مبنية من عروش النخيل فإن تعرض الآثار للأمطار والأتربة والحرارة أصبح أمراً مسلّماً به. ما رصدته «الوطن» بالصور داخل المخازن، أكده تقرير صادر من شرطة الآثار يكشف عن كارثة أخرى، حيث أشار التقرير إلى أن منطقة «آثار سقارة وأبوصير» بالجيزة، التى يوجد بها 68 مخزناً تحوى ما يتجاوز 250 ألف قطعة أثرية، منها 22 مخزناً ذات أسقف متهالكة خشبية قديمة، وبحالة سيئة سهلة الاقتحام والكسر، وبعضها مبنى بالطوب اللبن، وطالب بسرعة اتخاذ إجراءات لنقلها وحفظها بمخازن آمنة، على غرار ما جرى من نقل لآثار البعثات اليابانية والفرنسية لمخازن متحفية. «الكارثة»، كما يؤكد أسامة كرار، المنسق العام لجبهة الدفاع عن الآثار، أن عدداً غير قليل من القطع الأثرية غير مدرج فى سجلات الآثار، مما يعنى أن سرقتها وتهريبها للخارج أمر فى غاية السهولة، وإعادتها مرة أخرى «شبه مستحيلة». وأشار «كرار» إلى أن «لصوص الآثار» أصبحوا يتعاملون بمنطق أنها «سوبر ماركت» لانتقاء ما خف وزنه وثقل ثمنه فى ظل تجاهل تام من الوزارة، بالرغم من أن غالبية السرقات التى تمت عقب الثورة كانت لمخازن الآثار، وكان الناتج سرقة مئات القطع، كما تكشف مؤخراً وب«الصدفة البحتة» أن اللصوص وبمنتهى السلاسة قاموا بنسخ واستبدال القطع الأثرية فى المخازن بقطع مزيفة. من جانبه، اعترف يوسف خليفة، رئيس قطاع الآثار المصرية، أن 25% من مخازن الآثار بميت رهينة بُنيت بالفعل من الطوب اللبن وعروش النخيل، وهو ما تسبب فى سرقتها من قبل، مشيراً إلى أن انعدام الوجود الأمنى هو مسئولية شرطة السياحة والآثار، المخولة بتأمين المناطق الأثرية. وأكد «خليفة» أنه يجرى حالياً جرد كافة المخازن استعداداً لنقلها إلى المخازن المتحفية، البالغ عددها 26 مخزناً، وبنيت على أحدث الأساليب العلمية العالمية، مشيراً إلى أن عصر وضع الآثار داخل مغلفات كرتونية وأجولة انتهى إلى الأبد، حيث تم تجهيز المخازن الجديدة ب«أرفف وفتارين للعرض» وأجهزة امتصاص للرطوبة والحرارة، حفاظاً على الآثار، كما تم تأمين تلك المخازن بأبواب مصفحة وأجهزة إنذار حديثة. وعن أسباب التأخر فى نقل الآثار إلى المخازن المتحفية بالرغم من انتهاء العمل بها منذ 2010، قال «خليفة» إن هذا الأمر يسأل عنه المسئولون السابقون، مؤكداً أنه منذ توليه منصبه يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. الدكتور محمد إبراهيم، وزير الآثار السابق، أكد أن جرد المخازن يجرى بصورة بدائية جداً، حيث يمر المفتشون على الآثار الموجودة لرصدها داخل سجلات بأرقام تسجيل، فى أسلوب بدائى يسهل عملية الاستيلاء على الآثار وتبديد تاريخ مصر، خصوصاً مع ضياع السجلات أو تعرضها للتلف، مضيفاً: كنت بصدد وضع مشروع لتوثيق المخازن إلكترونياً بصور وقاعدة بيانات معممة على مختلف مخازن ومتاحف الجمهورية، لأن الآثار تتشابه كثيراً وتمييزها بالصور يساعد على حفظها. قائمة سرقات الآثار من المخازن، كما يقول عمر الحضرى، الأمين العام للنقابة المستقلة للعاملين بالآثار، طويلة وتكشف عصابات منظمة تعرف مقصدها تماماً، وكان آخر تلك السرقات 3 مشكاوات من مخازن «متحف الحضارة» الأكثر تطوراً وأكبر تأميناً، إضافة إلى سرقة تمثال من مخازن البعثة الأمريكية فى ميت رهينة، وبالصدفة فوجئت الخبيرة التى اكتشفته أثناء إلقاء محاضرة عن التمثال بأحد الطلبة يؤكد أنه شاهد التمثال فى متحف فى بلجيكا، وعقب كشف الواقعة تحركت الوزارة لتؤكد أن التمثال الموجود بالمخزن مقلد. وتابع «الحضرى»: بنظرة سريعة للسرقات التى طالت الآثار عقب ثورة 25 يناير، سنجد سرقة المتحف المصرى ومخزنه فى اليوم الرابع للثورة، ثم مخزن متحف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومخزن كفر الشيخ، فى مارس 2011، سبق ذلك سرقة مخزن صان الحجر بالشرقية ومخزن آثار منطقة الأهرامات ومخزن آثار تل الضبعة فى الثانى من أبريل الماضى، وسرقة آثار مخازن البر الغربى، وسرقة مخازن سليم حسن بمنطقة الهرم. وقال: خرجت علينا وزارة الآثار بتصريحات أقل ما يقال عنها أنها «شو إعلامى» عن نقل الآثار إلى مخازن جديدة أكثر تأميناً، وبالرغم من مرور أكثر من 3 سنوات فإن الوضع لا يزال على ما هو عليه.