قال لى مذكِّراً: الوحدة خير من جليس السوء يا عزيزتى. مسحتُ عن عينى نظرته واتجهت إلى أعمق ما فيه لأواجهه: ولكن الوحدة لله وحده يا صديقى الطيب، هو الذى اختارها وقصرها على نفسه. نعم، أحياناً نبحث عن مهرب من الأشياء والأسماء، عن مهرب نختبئ فيه منا ومن ذكرياتنا وماضينا، أو حتى من أوجاع حاضرنا، فنتسلل خفية عن أنفسنا حتى لا نتحدث لها، حتى لا نواجهها وننظر إلى أعماقها التى لا تعرف غير الحقيقة.. والحقيقة يا عزيزى قلما تكون غير مؤلمة. قد يجرحنا الأصدقاء، وأحياناً نتلقى صدمات من الأهل أو من هؤلاء الذين أحببناهم حقّاً واخترناهم بقلوبنا. وقد قال السابقون «الحجر لا يصيب إلا مِن قريب»، هذه حقيقة وواقع، أعلم، ولكننا غالباً ما نعلن انسحابنا ونكفر بالأشياء التى أحببناها ونهرب. نأخذ قرارات باندفاع وكثيراً ما تكون قاسية، نُقصِى أنفسنا عن الدنيا ونُقصِيها عنا. نعم، نحن مع أول ضربة تأتينا نركض لنغلق الأبواب ونُسدِل الستائر ونعلن أن الدنيا قد انتهت وما عاد لنا أن نثق بأحد. أعلم أننا لم يعُد لدينا مكان أو رغبة فى جرح جديد، وأننا نجلد أنفسنا بالأسئلة بعد كل تجربة.. لماذا؟ وكيف جَرُؤوا؟ وماذا فعلتُ لهم لأستحقّ منهم هذا؟ ولكن هل سألنا أنفسنا يوماً: كيف نغير المعادلة؟ كيف نقف من جديد بشكل أكثر صلابة؟ كيف نعلو بهاماتنا فوق الألم؟ كيف نواجه؟ متى نعاتب أو نسامح أو نصفح الصفح الجميل؟ أم أننا أدمنّا ثقافة الهروب؟ والهروب أيضاً كالصمت.. نصف الموت. إن كان قلبك حيّاً يا عزيزى فهو لا يعرف الانكسار، وإن كنت ممّن سيستسلم للوحدة فاعلم أنها ستأكل عمرك يوماً بعد يوم، ولن تُورِثَك سوى نار الكره التى ستحرقك أنت أولاً، فلا تجعلها تهزمك. قال لى معترضاً: أنت تبسِّطين الأمور كعادتك، أحياناً أشعر أنك تعيشين فى عالَم آخَر! أجبته بقلبى: لا يا صديقى، كل ما فى الأمر أننى أثق بك، لأنك تمتلك هذا الذى لن يتخلى عنك يوماً.. وهو.. أنت. لماذا إذَن لا تمنح نفسك هدنة وتدخل فى ضيافة الصمت الجميل؟ خذ وقتك كاملاً ولا تتحدث لأحد ما دمت لا تزال منفعلاً، فقد تقول -وأنت على هذا الحال- ما ستندم عليه يوماً. تستطيع حينها أن تقف على ذات المسرح. خذ دور الخصم وفكِّر بعقله، إن أقنعك فتغاضَ عمّا كان، وإن لم يقنعك فعُد أدراجك من جديد، فهذا المسرح لم يكُن به مكان لك، مؤكّد دخلتَه بالخطأ.. ابحث عن مكانك الذى ضللت الطريق إليه، لن تخسر شيئاً إن فعلتها. يا عزيزى.. جميعنا يعرف كيف يكون الجرح، ولكن هذا الجرح هو الذى سيتسرّب منه النور إليك يوماً ما.. صدقنى. كان هذا حوارى معه، ورغم أننى لست بعيدة أبداً عن هؤلاء الذين تَحدَّث عنهم، فإننى أيضاً أحاول قدر ما أمكن أن أصل إلى الضفة الأخرى وأهجر هذه الغرفة المظلمة التى لا تفتح ستائرها بسهولة. نعم، فالخيانة مُوجِعة، والأزمات التى نعيشها مع أصدقائنا والمقربين إلينا ليست هيِّنة، ولكن الحياة لا تنتهى عند شخص ما ولا بموقف ما. ولا تنسوا أن لهم كل الحق فى أن نستمع إليهم، فقد نغير أفكارنا عنهم، ولكن أرجوكم اذهبوا إليهم بعيداً عن ثقافة «الانتقام» التى تسيطر على عقولنا كلما اختلفنا. أما الذين سأسألكم أنتم أيضاً عنهم، فهؤلاء الذين يخالطون الجميع بلا تمييز هرباً من الوحدة والفراغ، ألا يبيعون هم أيضاً أيامهم بلا ثمن؟ لماذا إذَن لا نملأ حياتنا بهذه الأشياء التى نحبها حقّاً، حتى نبرأ من أوجاعنا؟ إذا كنتَ ممن يحبون الموسيقى، فلماذا لا تتعلم العزف على آلة تحبها مثلاً؟ نحن لا نكبر على التعلّم. إن كنت من هواة الرياضة فستنقذك من الضغط النفسى الذى تعيشه، وستتخلّص منه مع كل نفَس تتنفسه فى أثناء ممارستها. يمكنك أيضاً أن تعيش مع أبطال رواياتك بعض الوقت، أو تقرأ لكتّابك المفضَّلين. يمكنك أيضاً أن تكتب، فالكتابة يا عزيزى ليست ترفاً.. بل هى حياة. مَن منا يعرف القادم؟ ربما وجدت بدايتك الجديدة فى مكان ما من هذه الأماكن. يا صديقى الطيب.. لسنا كلنا ذلك الشخص الذى أوجعك أو خانك أو أهانك، ستجد فينا الطيب والقبيح والشهم والمسلِّى والفارغ، فاملأ حياتك بمن يضيف إليها، وابتعد عن تلك الانتصارات الزائفة التى تحملها غرف الوحدة أو تمنحها ثقافة الانتقام؛ كلاهما -حقّاً- لا يليق بك.