ترددت بعض الوقت فى الكتابة عن هذا الكتاب المعنون باسم «إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، لكاتب مجهول اسمه أبوبكر ناجى، وحتى لا نوصف بأننا لا نقرأ وإن قرأنا لا نفهم، يبدو أن الظروف التى تمر بها مصر الآن بحاجة إلى بعض التبصر وقدر من التأمل فى مثل هذا الكتاب الذى يعتبر الأساس النظرى الذى تطبقه الجماعات السلفية الجهادية فى مناطق مختلفة من العالم. وحين نقول إننا فى حرب وجود، فمن الضرورى أن ندرك كيف يفكر هذا الطرف الذى يبادر بمحاربتنا، وكيف يتصور المعركة التى يديرها ضدنا، وكيف ينظر للمستقبل بعد هذه الحرب. النسخة الأولى التى اكتشفت لهذا المؤلَف كانت فى المملكة العربية السعودية فى العام 2008، أثناء مداهمة قوات الأمن لأحد أوكار خلية تابعة لتنظيم القاعدة فى اليمن وبلاد الحرمين، وقراءة المخطوطة تؤكد أنها كتبت قبل هذا التاريخ بعامين على أقل تقدير، إذ فيها ما يرجح أن مؤلفها تأثر فكرياً بما طرحته كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية، حول الفوضى الخلاقة أثناء العدوان الإسرائيلى الكاسح على لبنان صيف 2006، والذى عنت به أن إعادة بناء منطقة الشرق الأوسط لتصبح أكثر ديمقراطية بالمفهوم الأمريكى من خلال نشر الفوضى وانكسار النظام العام فى بلدان المنطقة. ويبدو تأثر مؤلف كتاب «إدارة التوحش» بهذه الفكرة من زاويتين؛ الأولى أن إعادة بناء شىء ما يتطلب تدميره أولاً، والثانية أنه أثناء عملية التدمير وإعادة البناء سيفقد النظام وجوده، وستكون هناك وحشية متعددة المستويات، ما سيؤدى إلى تحمل الناس معاناة كبرى. وأنه من أجل التخلص من هذه المعاناة فإن الناس سيقبلون بمن يفرض نفسه عليهم ليقودهم إلى حال استقرار ومن ثم بناء نظام جديد. وبالنسبة للكاتب فإن الجماعة السلفية الجهادية عليها أن تكون قادرة على إدارة هذه المرحلة الانتقالية ما بين عمليتى الهدم وإعادة البناء، التى يطلق عليها مرحلة التوحش، والتى من شأنها أن تقود إلى حالة التمكين لاحقاً بإقامة دولة الخلافة. ويرى الكاتب أنه يمكن التبكير بحال الفوضى من خلال تحقيق شوكة النكاية والإنهاك، وفيها تقوم الجماعات الجهادية بإنهاك العدو القريب والبعيد معاً من خلال عمليات عسكرية صغيرة متعددة ضد مكامن القوة للدولة المستهدفة خاصة المنشآت الاقتصادية وفى أكثر من موضع وبصورة متكررة، وكذلك تنفيذ عمليات نوعية كبيرة يتم التحضير لها جيداً، وتوظيفها إعلامياً من أجل التأثير على نفسية العدو واستنزاف قدراته، ومن ثم إقناع الناس بأن هذا النظام الحاكم لم يعد قادراً على حمايتهم، ما يدفع جزءاً منهم إلى التماهى مع الجهاديين، وهناك جزء آخر قد يرفض ويمانع، وهم الأعداء، وجزء ثالث قد ينتظر بعض الوقت إلى حين ينتصر الجهاديون ثم يلحق بهم. والقصد من عمليات الإنهاك، حسب الكاتب، أن تخرج مناطق من سطوة النظام المستهدف لكى تقع فى أيدى الجهاديين، وكذلك جذب مزيد من الشباب للالتحاق بالجهاديين من خلال الدعاية المحكمة للعمليات النوعية ذات التأثير. وينظر المؤلف إلى ما يعتبره عدواً فى مناطق مختلفة ما بين أفريقيا وآسيا والأمريكتين، ولا يهم هنا أن تكون الدولة مسلمة أو فيها غالبية مسلمة، فالجميع يعاملون باعتبارهم بعيدين عن الإسلام، وأنهم مستهدفون بالدخول فى معية الجماعة الجهادية إلى حين بناء الدولة الإسلامية التى سيديرها الجهاديون أنفسهم، وحتى إن قبلوا التعاون مع غيرهم من الجماعات الإسلامية، فهو تعاون مؤقت إلى حين تحقيق التمكن كاملاً للسلفيين الجهاديين. والكتاب ملىء ببعض تفاصيل ونصائح لمن سيديرون هذا التوحش، وأبرز هذه النصائح تطبيق استراتيجية عسكرية تؤدى إلى تشتيت جهود وقوات العدو وإنهاك واستنزاف قدراته المالية والعسكرية، واستراتيجية إعلامية تستهدف جذب المزيد من الذين يقبلون الجهاد السلفى، والتأثير سلباً على الجنود والضباط فى الجيوش المعادية لهم بهدف دفعهم للهرب أو الانضمام إليهم، مع إتقان الإدارة، وفهم السياسة الإعلامية للعدو والرد عليها، وفهم أعمق للسياسات والمواقف للجماعات الإسلامية الأخرى التى تبتعد عن فهم السلفية الجهادية. وما سبق من أفكار تضمنها هذا الكتاب المنسوب إلى أحد منظرى القاعدة، يفسر الكثير مما يجرى فى بلادنا الآن، ويقدم لنا أيضاً أفكاراً معاكسة للرد عليهم وإفشال مسعاهم. وبناء على ذلك نخلص إلى عدة استنتاجات مهمة: الأول، أن الجماعات السلفية الجهادية ومن والاهم من التيارات الأخرى تؤمن بالعمل العسكرى غير المقيد بأى مبادئ، ولا يهمهم هنا حرمة النفس البشرية بأى حال، أو حماية الموارد الاقتصادية، وكل ما يهمهم هو إشاعة أكبر قدر ممكن من الفوضى التى تقود إلى انهيار النظام والحكومة والمؤسسات. الثانى، أن هذه الجماعات ترى فى الجيوش الوطنية العدو الأول لها، ولذا لا تتورع عن العمل الدؤوب لتفكيك هذه الجيوش وتفتيت لحمتها وتماسكها، وبالتالى تحدث الفوضى والتوحش اللذان يمثلان لهذه الجماعات الجهادية الفرصة الذهبية للسيطرة على المناطق التى خرجت من عباءة الدولة، تمهيداً لإدارة هذه الفوضى، ومن ثم التقدم خطوة نحو التمكين الشامل. الثالث، أن نظرة السلفية الجهادية للعالم تقوم على العداء والمواجهة ولا سبيل فيها للتعايش أو التسامح أو قبول الآخر بأى حال من الأحوال. الرابع، أن إدارة هذه الجماعات لمعركتهم ضد العالم بأسره تعتمد مبدأين متكاملين وهما تقسيم العالم إلى بؤر ومناطق تستعصى فى المرحلة الأولى على تغلغلهم ويؤجل التعامل معها إلى حين تحقيق التمكين فى الأماكن المؤهلة لذلك. وبؤر أخرى مؤهلة لهذا التغلغل وهى المناطق والبلدان التى تنهار فيها الدولة أو تفشل فيها المؤسسات فى إثبات وجودها. الخامس، أن العالم مترابط، فحين يحقق عدو السلفية الجهادية انتصاراً فى منطقة ما، يتم الرد عليه لدى طرف آخر ينتمى لهذا العدو حتى ولو فى مكان آخر بعيد جغرافياً. وإجمالاً فإن المعركة مع هؤلاء طويلة، والانتصار عليهم مرهون أساساً بالقدرة على استعادة الدولة، واستردادها لقوتها ومكانتها وسيطرتها على الشأن العام، ودون ذلك يصب فى مصلحة الفوضى والتوحش، وما الدعوة إلى مسيرات غير قانونية يوم الجمعة 28 نوفمبر الحالى لتحويل مصر إلى قندهار، إلا تطبيق حرفى لأفكار هذا الكتاب القاعدى الخطير.