فى ظل المرحلة التى تمر بها الدولة المصرية ورغبة أبنائها فى بناء دولة مدنية حديثة تُرسى قواعد العدل والمساواة وتكافؤ الفرص وتُعلى من سيادة القانون، وبعد أن وضعت أقدامها بالفعل على هذا الطريق وقطعت فيه شوطاً ليس بالقليل، ورضى الجميع الاحتكام إلى دستور يفترض أنه يرسخ لتلك القواعد ويُعلى من شأن تلك القيم والمبادئ التى طالما حلمنا بها جميعاً. وانطلاقاً من تلك القناعة فإن مقتضيات المنطق تفرض على اللجنة المشكّلة لوضع قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، تلك المبادئ والقواعد الدستورية والواردة بالمادتين 102، 228 لما تضمنته من معايير أربع لتقسيم الدوائر.. المعيار الأول أن يكون التقسيم عادلاً للسكان، والثانى عادلاً للمحافظات، والثالث متكافئاً للناخبين، والرابع ملائماً لبعض الفئات الخاصة، والتى جاءت واردة بنص المادة 228 مثل «العمال والفلاحين والمرأة والشباب والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين المقيمين بالخارج». وكانت صدمتى كبيرة عندما اكتشفت أن تلك النصوص جاءت فى ظاهرها برّاقة بينما فى حقيقتها لا تخرج عن كونها نصوصاً فضفاضة، فى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، تصلح فقط للخطب المنبرية والمناسبات أكثر من كونها تُعد مواد دستورية ملزمة للمشرّع لما شابها من تعارض وتشابك وتصادم عند التطبيق الفعلى. فمن غير المنطقى، بل ومن غير المقبول، إصدار قانون الدوائر الانتخابية وسط لغط يؤكد احتمالية وقوع القانون المحتمل فى هاوية عدم الدستورية، خاصة أن الدستور قد تضمّن عبارات يستحيل على من يتصدى لمهمة إعداد ذلك التشريع أن يطبقها مجتمعة، إذ قررت المادة 102 «يشكل مجلس النواب من عدد لا يقل عن 450 عضواً.. و.. ويبين القانون شروط الترشيح ونظام الانتخاب وتقسيم الدوائر الانتخابية بما يراعى التمثيل العادل للسكان، والمحافظات، والتمثيل المتكافئ للناخبين»، كما تضمنت المادة 228 ما نصه «تعمل الدولة على تمثيل العمال والفلاحين والمرأة والشباب والمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين المقيمين بالخارج تمثيلاً ملائماً فى أول مجلس نواب». وبالتالى فنحن أمام أربعة معايير وجب على المشرع الالتزام بها وهى: التمثيل العادل بين السكان، والعادل بين المحافظات، والمتكافئ بين الناخبين، والملائم للفئات السابق ذكرها. وعلى المشرع أيضاً الالتزام بالتفسير اللغوى والقانونى للكلمات الثلاث «العادل.. المتكافئ.. الملائم». فالعادل هو اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه الذى يسيّر الشىء معتدلاً من غير تفاوت، وكلمة «عادل» وفقاً للتفسير اللغوى تعنى المعادلة بين الشيئين، أى المساواة بينهما وجعل كل منهما مثل الآخر وقائماً مقامه، وأيضاً «عدَل» بين المتخاصمين أى أنصف فى الحكم بينهما وتجنب الجور والظلم. ومن هنا فنحن أمام إشكالية كبرى عند التطبيق العملى تتمثل فى استحالة تطبيق تلك المعايير بالعدل بين المحافظات ذات الكثافة السكانية الضعيفة فى مواجهة نظيراتها من المحافظات ذات الكثافة السكانية العالية. وبمراجعة تفسير كلمة متكافئ نجد أن تكافؤ الشيئين يعنى أنهما تماثلا واستويا. ووفقاً لهذا التفسير نجد أن المشرع الدستورى قد عمد إلى أن يكون التكافؤ بين الناخبين وليس بين المرشحين. وبالتالى فنحن أمام إشكالية ثالثة تتمثل فى ضرورة إحداث التكافؤ وفقاً لما هو ثابت بقاعدة البيانات المدون بها أسماء الناخبين وأعدادهم وتوزيعهم، مع الأخذ فى الاعتبار التضارب والتعارض فى البيانات بين الجهات المسئولة عنها مثل «الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء وإدارة الأحوال المدنية بوزارة الداخلية وقاعدة بيانات اللجنة العليا للانتخابات». والسؤال هنا: هل يمكن أن تصب تلك الحالة فيما يسهم ويدفع فى الطريق الذى ارتضيناه جميعاً لمحاولة جمع شتات هذا الوطن والنهوض والعودة به إلى مكانته الطبيعية؟! وللخروج من هذا المأزق نرى أهمية القفز خارج الصندوق والعمل على تقسيم الدوائر على أسس جديدة تخرج عن التقسيم الإدارى الذى اعتمد على نطاق المراكز معياراً للتقسيم، إذ يغل يد المشرّع ويفرض عليه واقعاً يصعب تطبيقه للتفاوت الكبير بين أعداد المقيدين فى تلك المراكز، مما يعصف بمبدأى العدالة والتكافؤ ويطعنهما فى مقتل.. ونرى ضرورة الأخذ بمعيار الوحدات المحلية الذى يعطى صغر حجمها وأعدادها للمشرّع حرية أكبر فى الحركة للتقسيم العادل والحقيقى وسهولة ضم بعضها للبعض طبقاً للواقع والأعداد الحقيقية المقيدة فى قاعدة البيانات الانتخابية. كما أن التكافؤ بين الناخبين يستحيل تحقيقه عند ضم تلك المراكز لبعضها البعض، وبالتالى نجد أن الأخذ بمعيار الوحدات المحلية يقترب بنا من إمكانية تحقيق المبادئ التى قررتها نصوص الدستور، مع الأخذ فى الاعتبار أن الدستور قد عمد إلى وضع حد أدنى لعدد المقاعد التى يتشكل منها مجلس النواب دون حد أقصى يجب الالتزام به. وعليه يثور التساؤل: لماذا لا يتم تقسيم الجمهورية إلى عدد من الدوائر الفردية تشكل كل دائرة من عدد من الوحدات المحلية يكون مجموع المقيدين بها مساوياً لعدد المقيدين بالدائرة المجاورة دون تمييز أو إخلال بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وتمثل كل دائرة بنائب واحد دون الدخول فى حسبة برمة التى ستؤدى حتماً إلى عدم دستورية ذلك القانون. وهنا أقرر، وبلا مواربة، أننى أثمّن ما يقوم به المستشار إبراهيم الهنيدى وباقى أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد المشروع لما يبذلونه من جهد ضخم لإحداث التوازن بين مواد وعبارات جاءت رنانة ومطاطة وفضفاضة كانت غايتها تحقيق العدل الكامل والمساواة وتكافؤ الفرص إلا أن الواقع يؤكد استحالة الوصول لتلك الغاية عند التطبيق العملى. وللحديث بقية ما كان فى العمر بقية.