فجع المصريون يوم الأربعاء الخامس من نوفمبر 2014م بحادث الطريق بالبحيرة الذى راح ضحيته سبعة عشر طالباً، وهم فى طريقهم لطلب العلم بالمدرسة الفندقية بالإسكندرية، عندما اصطدمت حافلتهم بالنقل الثقيل الذى يحمل مواد بترولية فاشتعلت النيران، وكانت الكارثة التى هى نتاج مجموعة جرائم أخلاقية أو مجتمعية، ومنها الإهمال والرعونة وإدمان المخدرات اللعين. وبينما كان المصريون يتبادلون العزاء فى فلذات أكبادهم، تطاولت يد الإرهاب الغاشم لتزيد من أوجاع قلوب المصريين وتتاجر بها فى مساء اليوم نفسه بتفجير فى قطار منوف الذى راح ضحيته ثلاثة من أمناء الشرطة فى شماتة قميئة تظهر خسة الإرهابيين الموالين لإخوان الشياطين عبيد السلطة وأعداء الإنسانية التى قضى الله فيها بقوله سبحانه: «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِيى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا» (المائدة: 32). اعتصم المصريون بحبل ربهم ولم يفرقهم عنه اجتماع الجرائم الأخلاقية والإرهابية، فهم المؤمنون بقضاء الله وقدره جزءاً من حقيقة إيمانهم بالله سبحانه، فقد أخرج أبوداود بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بنى إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: «اكتب». قال: رب وماذا أكتب؟ قال: «اكتب مقادير كل شىء حتى تقوم الساعة». يا بنى إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس منى». وتعزى المصريون برسول الله الذى عزاهم وأمثالهم من المؤمنين بنفسه، فيما أخرجه عبدالرزاق عن عبدالرحمن بن سابط القرشى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بى فليعزه ذلك عن مصيبته»، وأخرجه ابن ماجه بسند ضعيف عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس أيما أحد من الناس، أو من المؤمنين، أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى تصيبه بغيرى، فإن أحداً من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتى». وبهذا العزاء العزيز والاعتصام بحبل الله المتين انتصر المصريون على الطاغوت بتحالف الإهمال والإرهاب الذى يتوقعون معاودته فى محاولات أخرى محكوم عليها بالفشل؛ لإنكار المصريين له وكفرهم به، كما قال تعالى: «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (البقرة: 256). ويدرك المصريون فضل الصبر على المصائب فلن يضيعوه، وسيتسابقون فى تحصيل بشريات القرآن الكريم لأهله ومنها قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة: 155-157)، ومنها ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدى المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة». وما كان قبول المصريين للعزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على ثواب الصبر على المصائب استسلاماً للمجرمين بإهمالهم أو إرهابهم، وإنما كان لتقوية عزائمهم على مقاومة الإهمال وتصفية الإرهاب. أما الإرهاب فليس له إلا قول الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْى فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (المائدة: 33). وأما الإهمال فشعبه كثيرة أعلاها تسريب المخدرات لإشاعة الإدمان بما يضيع عقول الناس، وأدناها عدم المتابعة فى تنفيذ العقود بما يضيع مصالح الناس. ويجمع خيوط الإهمال إضاعة الأمانة التى أمرنا القرآن الكريم بالوفاء بحقها كما قال سبحانه: « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا» (النساء: 58)، كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأدائها على وجهها الأكمل، ولم يجز التفريط فيها ولو كان بقصد الظفر بالحق، فأخرج أبوداود والترمذى بإسناد صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك». وصدق الله حيث يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (الأنفال: 27). فلا يجوز لمقاول رصف الطريق أن يهمل فى الأمانة الموكلة إليه بزعم عدم حصوله على مستحقاته، كما لا يجوز للأطباء وهيئة التمريض التفريط فى حقوق المرضى بزعم تأخير المستحقات المالية، كما لا يجوز للعمال والموظفين وسائر العاملين خيانة أعمالهم بزعم انتقاص حقوقهم المالية. إن من يتولى عملاً للناس مسئول أمام الله عن أدائه على أصوله المرعية بعناية الرجل المعتاد أو الحريص. أما تبعات هذا العمل من الأجر أو المكافأة فليس لها أدنى تأثير على جودة العمل وإتقانه من حيث هو عمل، وإنما مجال تلك التبعات ساحة المطالبة الإدارية أو القضائية. فهيئة التمريض التى ارتضت أن تعمل مشاهرة فى أحد المستشفيات لا تملك أمام الله تعالى وفقاً لعقد التوظيف إلا أن تخلص فى مهنتها على وجهها المرعى أو أن تتقدم باستقالتها حتى لا تخون الله فى عملها، وفى جميع الأحوال لها أن تستمر فى المطالبة بحقوقها. وكذلك مقاولو الإعمار والرصف الذين ارتضوا القيام بالعمل الإنشائى لا يملكون أمام الله تعالى وفقاً لعقد الإسناد إلا أن يخلصوا فيه وأن يتقنوه على أصوله المرعية أو أن يتقدموا بالاعتذار عن أداء المهمة الموكلة إليهم حتى لا يخونوا الله فيها، وهذا ما فعلته امرأة ثابت بن قيس الصحابية عندما وجدت نفسها كارهة لزوجها بما يمنع بعض حقوقه طلبت الفكاك بالخلع حتى لا تخون حق عقد الزوجية، فقد أخرج البخارى عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس قالت: يا رسول الله، ما أعيب على ثابت بن قيس فى خلق ولا دين، ولكنى أكره الكفر فى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»؟ قالت: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم لثابت: «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة».