إحياء ذكرى الهجرة النبوية المطهرة له أسس لا ينبي تخطيها حتى لا يقع المسلم في شرك البدع والضلال، والاحتفال بذكرى الهجرة النبوية المطهرة يكون بإقامة سنن الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأول سنة ينبغي إحياؤها هي أن نعلي قدر النبي ومحبته في قلوبنا حتى يكون الله ورسوله أحب مما سواهما، وحتى يكون حبنا للحبيب المصطفى عبادة لله فلابد وأن يكون على هدي السلف الصالح -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وهنا سؤال يطرح نفسه: كيف أحب السلف الصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد بلغت مكانة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مبلغاً عظيماً في قلب المسلم، كيف لا وقد رفع الله تعالى ذكره، فما أن يذكر الله بشهادة التوحيد إلا وقد ثنى المسلم بشهادته أن محمداً رسول الله، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وقد عظم مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عز وجل، فهو أفضل خلق الله على الإطلاق، لذا حري بمن آمن به أن يحبه ويتفانى في اتباعه والدفاع عنه. عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ) كما جعل الله اتباع هدي النبي سبيلاً للفوز بحبه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الأمر الذي انعكس حباً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم، فهم يحبون سيد الخلق وحبيب الحق، ومن كان حبه سبيلاً لمرضاة الله تعالى ومغفرته. وقد تعددت الصور والمشاهد التي تعكس مدى حب الصحابة والسلف الصالح للني -صلى الله عليه وسلم، وهو ما برز في المواطن الآتية: أولاً- تقديم حبه على كل شيء: إن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، وهو ما برز لدى أصحابه فلم يقبل منهم أن يقدموا أي شيء من حطام الدنيا عليه. قَالَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ) أي الآن تم إيمانك؛ لأن تقديم حب أيٍّ من المخلوقات على النبي صلى الله عليه وسلم فيه انتقاص لقدر النبي -صلى الله عليه وسلم، وتقصير في طاعته واتباعه، إذ هو ثمرة الحب، وفي ذلك دلالة على نقص الإيمان. ثانياً- اشتياق الصحابة لرؤيته: لقد بلغ حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قلوب الصحابة مبلغاً عظيماً، إلى درجة أنه شق عليهم أن يتصوروا عدم رؤيتهم له يوم القيامة في الجنة، لما سيبوء به من مقام رفيع وعال وهم دون ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة قالت: (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلى من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك وعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ). وكان من أبلغ أماني الصحابة مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة فعَنْ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ). وإذا كان التزود بحب النبي -صلى الله عليه وسلم- منجاة لصاحبه يوم القيامة، فقد حق لمن فاز بذلك أن يستبشر برفقة الحبيب في الجنة، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ السَّاعَةِ فَقَال:َ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ). وقد امتد حب الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن حرصوا على يقتفوا أثره –صلى الله عليه وسلم- في كل شيء حتى تتبع خطى دابته وأن يتبركوا بعرقه وشعره وماء وضوئه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا وَلَيْسَتْ فِيهِ قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا فَأُتِيَتْ فَقِيلَ لَهَا: هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ فِي بَيْتِكِ عَلَى فِرَاشِكِ قَالَ: فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا فَفَزِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا قَال: أَصَبْتِ). وعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ قَالَ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ). وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: (لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ)، ولما حلق النبي -صلى الله عليه وسلم- شعره أخذه أبو طلحة، فأتى به أم سليم لتحفظه لديها. ثالثا: طاعته والاهتداء بهديه فقه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن طاعة الرسول من طاعة الله عز وجل، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}. وقوله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}، لذا تنافسوا في طاعته وامتثال سنته، كي يفوزوا برضا ربهم وينجوا من عقابه، وانقادوا طائعين مطبقين لسنته دون أن يفرقوا بين دقيق ما يبلغهم أو عظيمه. ومن شدة حب الصحابة للنبي وتوقيره أنهم كانوا عندما يأتون بابه يقرعونه بالأظافر حتى لا يؤذوا النبي ففي حديث المغيرة: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير) قال المحدثون: "كانوا يقرعونه بالأظافير تأدبا" ، ولما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} ظن ثابت ابن قيس رضي الله عنه أنه المقصود في الآية فحبس نفسه في بيته لأن طبيعة صوته جهورياً ولكنه لم يقصد رفعه على صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، "فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ فَقَالَ: شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ –أحد الرواة- فَرَجَعَ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّة). ِ ولقد ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. ولقد مدح الله قوما فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وذم قوما آخرين فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }.