«جمهور» وسائل الإعلام هو أحد أهم عناصر سلسلة عملية الاتصال الجماهيرى المتشابكة والمترابطة، وهو ذلك العدد الكبير من الأفراد الذين يتعرضون لهذه الوسائل لفترة معينة من الزمن. وقد يكون «الجمهور» منتمياً لجنسية محددة، لكنه على أى حال لا يستمد وضعه ك«جمهور» من «وطنيته» أو جنسيته أو انتمائه لقيم معنوية بعينها. وبالتالى فمفهوم «الجمهور» ليس مفهوماً مقدساً أو ممتنعاً عن التوجيه والنقد. ولذلك سيمكننا، ببساطة، أن نعتبر أن جمهور وسائل الإعلام فى مصر يُعد سبباً رئيساً من أسباب تردى أداء معظم هذه الوسائل ومجافاتها للقيم والمعايير الأخلاقية والمهنية. ورغم أن عقود التجريف التى شهدتها مصر سابقاً، وصناع الإعلام أنفسهم، ومهنييه على وجه التحديد، شركاء أساسيون فى صناعة الحالة الإعلامية البائسة التى نعانى تداعياتها المريرة، فإن «مشكلة التلقى» بدورها تُعد أهم أسباب التراجع المزرى الراهن فى المجال الإعلامى المصرى. وبناء على ما سبق، فإن أى محاولة جادة لإصلاح المجال الإعلامى المصرى، ووقف نزيف الخسائر المترتب على اختلالاته، لا يمكن أن تؤتى ثمارها المرجوة من دون أن تشمل «حالة التلقى»، ومن دون أن تسعى إلى ترقية حس الجمهور ووعيه. لم يتأصل مفهوم «التربية الإعلامية» بعد فى مصر، وبالتالى فإن قطاعاً كبيراً من جمهورنا لم يتعلم الطريقة المثلى للتعاطى مع وسائل الإعلام. إحدى أهم المشكلات الراهنة فى مجال التلقى الإعلامى فى مصر تتعلق بعدم قدرة الجمهور على التفرقة بين ما هو خبر وما هو رأى، وبالتالى فإن كثيراً مما يرسخ فى عقل الجمهور كحقائق ليس سوى آراء بعضها حاد ومنفلت وليس مبنياً على أى نسق برهنة. مشكلة أخرى رئيسة تتعلق بغياب السؤال عن المصدر. ستجد عشرات ممن حولك يحدثونك عن أخبار وقعت بوصفها حقائق لا تقبل الدحض، وعندما تسأل عن المصدر، ستكون الإجابة «فيس بوك»، أو «تويتر»، وأحياناً «بيقولوا...»، أو «سمعت». يُعد تغييب المصدر سلوكاً شائعاً بين أفراد جمهور وسائل الإعلام فى مصر، بل إن عدم السؤال عن المصدر بات جزءاً من أدبيات التلقى، وبالتالى فإن وسائط التواصل الاجتماعى مثلاً أصبحت تموج بالكثير من الإفادات التى يتم التعامل معها بوصفها أخباراً فى وقت لا تستند فيه إلى أى سند. يتسبب ذلك فى اختلاق الوقائع، وتشويه الحقائق، وترويج الشائعات، بل وأحياناً كثيرة يتم حرف اتجاهات الجمهور بصدد قضايا مهمة، ويجرى اغتيال سمعة البعض، وتشويه آخرين، وإشعال الفتن، والتحريض على العنف، وتعميم حالة الكراهية، مما يُفقد الجمهور «الثقة العامة»، ويأخذه إلى حالة من الارتياب والإحباط والشك. يشجع قطاع كبير من جمهور وسائل الإعلام فى مصر الممارسات الحادة والمنفلتة بإقباله عليها وترويجها و«تشييرها» والحديث عنها وتعزيز أثرها، عبر استخدام وسائل الاتصال «الذكية» الجديدة. ورغم أن الجمهور ينتقد غالباً الممارسات الحادة والمنفلتة، ويُعرب عن استيائه منها، ولا يعلن عن تعلقه بها ومشاهدتها وقراءتها؛ فإن الأدوات التى منحتها لنا تكنولوجيا التحقق من الانتشار فى وسائل الإعلام الإلكترونية، وبعض الدراسات والبحوث الجادة، وشركات الإعلانات باتت تؤكد أن هذا الجمهور «يتحايل ويكذب» أحياناً، وأنه يُقبل على مشاهدة الأنماط الإعلامية الحادة وقراءتها، ويستمتع بها، ويبقى معها مدة أطول، ويشجع الآخرين على التعرض لها. التربية الإعلامية هى محاولة لتعليم الجمهور مهارات التعرض لتواصل الإعلام بطريقة سليمة من شأنها ترقية قدرته على الاستفادة من المحتوى الإعلامى وتجنب أضراره، وهو مفهوم لا بد أن ندعمه.. على الأقل فى مدارسنا وجامعاتنا. يرتكب الإعلاميون والسلطات وصُناع الإعلام فى مصر الأخطاء الكارثية الكبيرة.. لكن الجمهور فى بلدنا يفعل ذلك أيضاً. ولن يتسنى لنا إصلاح المجال الإعلامى من دون مواجهة الأطراف المختلفة بأخطائها، ومحاولة العمل على تصحيحها.