منذ فترة وقد آليت على نفسى ألا أخاطب أصحاب العقول «المبرمجة»، فهؤلاء نحن فى غَنَاء عنهم، ولا يعنينا أن تتحرك الأحجار التى فى رؤوسهم فتنبض بالفهم، ولكننى أخاطب الذين يفهمون، أولئك أصحاب القلوب الحية والعقول النابضة، أما أصحابنا الذين يعيدون لنا قول أصحاب القرون الأولى «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ»، أى أن هؤلاء بحثوا عن أعمال أسلافهم فاتبعوها فكانوا من أهل السلف! فهؤلاء هم من قال عنهم الشاعر لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادى، وحين ناديت بضبط مصطلح الكفر على القرآن الكريم، هاج أصحاب العقول المتيبسة، فماذا لو كتبت عن أهل الكتاب وقول القرآن الكريم عنهم! لن ينظر أحدهم للقرآن، ولكنه سيقول لك: قال ابن فلان، وروى ابن ترتان، أما آيات القرآن فنحن نضبطها على عقول هؤلاء ولا نضبط عقول هؤلاء على القرآن!. ولكننا الآن سنضبط الكل على القرآن، فهو الميزان، أنزله الله بلسان عربى مبين، وتأمل يا صديقى فى كلمة «لسان» ولك أن تسأل: لماذا لم يقل الله إنه أنزله بلغة عربية مبينة، لأن اللسان أصح وأفصح، أما اللغة فمن اللغو، لذلك لم ترد كلمة لغة فى القرآن أبداً، ولكنه اللسان، لذلك قال الله: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»، وقال أيضاً: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» وقوله «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ»، وهكذا فى كل آيات القرآن، ولأن جيل النهضة الحديثة فى مصر كانوا يفقهون هذا الاختلاف، لذلك عندما أنشأوا مدرسة تدرس لغات الأمم أطلقوا عليها «مدرسة الألسن»، فى حين أن الأزهر عندما أنشأ كلية لهذا الغرض أطلق عليها «اللغات والترجمة»!. هذا القرآن الكريم يا صديقى الذى جاء بلسان عربى مبين، جعل الله له لساناً خاصاً به، له قاموسه ومفرداته، ولا يمكن أن نفهم كلماته بمجرد أن نمررها فقط على اللسان العربى، ولكننا يجب لتمام فهمها أن نمررها على باقى القاموس القرآنى، أو قل باقى اللسان القرآنى، ولكى أقرب المعنى للأذهان، أقول إننا من خلال القرآن عرفنا أن الضوء غير النور (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) فليست كلمة النور هنا من مترادفات الضوء، ولكن الضوء هو الذى يأتى من المصدر مباشرة، أما النور فهو الذى يأتى كانعكاس من المصدر، والجسم غير الجسد، فالجسم يطلق على ما يكون فيه روح وحركة، أما الجسد فيستعمل لما ليس فيه روح أو حياة؛ وذلك استناداً لقول الله تعالى «وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ»، وقوله تعالى: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً»، والصب غير السكب، فالصب يدل على شدة الاندفاع والقوة، لذلك يقال عن المحب الذى اندفعت مشاعره بقوة إنه صب، كقول الشاعر: الصب تفضحه عيونه، وعن الصب الذى يدل على شدة الاندفاع قول الله سبحانه وتعالى فى سورة عبس: «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا»، ومنها قوله سبحانه وتعالى فى سورة الفجر: «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ»، أما السكب فيدل على نزول السائل برفق وهدوء وتتابع كمثل قوله سبحانه وتعالى فى سورة الواقعة «وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ» ولا يقال كأساً إلا إذا كان فيها شراب وإلا فهى زجاجة ومنها قوله سبحانه وتعالى فى سورة النبأ «وكأساً دهاقاً» وقوله فى سورة الصافات «يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ»، وفى سورة الإنسان: «إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا». هل وضحت الصورة، إذن، لا يقل لى أحد إن القرآن فيه مترادفات، فهو ليس قصيدة شعرية يعبر فيها الشاعر عن أفكاره بكلمات مختلفة تؤدى نفس المعنى، لا يعنيه أن يقول فى موقع من القصيدة كلمة كأس، أو كلمة زجاجة، أو جسم، أو جسد، أو صب أو سكب، وفقاً للبحر الذى يكتب فيه أو القافية التى يرتجيها، ولكن كل كلمة فى القرآن الكريم تؤدى دوراً محدداً دقيقاً غاية ما تكون الدقة، وهذه الكلمة نستطيع معرفة معناها من خلال لسان القرآن الكريم وقاموسه. ولأننا قلنا فى المقال السابق إننا سنكتب اليوم عن أهل الكتاب، لذلك فإننى سأعتبر هذا المقال بداية لموضوع فى منتهى الأهمية، أعرف أن أهل «هذا ما وجدنا عليه آباءنا» سيصخبون ويجهرون بالقول عندما يقرأون عناوينه فى الفيس بوك أو فى تويتر، ولكننا سنلقيهم وراء ظهورنا، أما الموضوع فهو عن أنه «لا جزية فى الإسلام» نعم يا صديقى لا جزية فى الإسلام! وليس الذى أعنيه أن مبررات الجزية لم تعد موجودة أصلاً، ولكن الذى أعنيه هو أن الله سبحانه لم يفرض جزية من الأصل على أهل الكتاب! والحقيقة أن هذا ليس من عندى أو من عند الشيخ ابن سرحان، أو مولانا السميدع، ولكنه محض كلام الله رب العالمين! أظن السيد سلفى والشيخ إخوانى سيقولون إن من كتب هذا الكلام لم يقرأ القرآن الكريم، ولم تمر عليه الآية الكريمة من سورة التوبة «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» وسيصيح صائح: ها هى الآية تلزمنا بأن نقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أين أنت من هذه الآية، ولك يا صديقى أن تتوقع أن يقول أحدهم ما سلف لمجرد قراءة عنوان المقال. ولكن يا صديقى هل يصمد صياحهم أمام الحقيقة القرآنية! القرآن لمن لم يعلم تحدث عن أربعة أصناف من أتباع الأديان السماوية، هم «أهل الكتاب»، وهم عموم جمهور أتباع الأديان السماوية، وصنف قال الله عنهم: «الذين آتيناهم الكتاب»، وصنف ثالث قال الله عنهم «الذين أوتوا الكتاب»، وصنف رابع قال عنهم «الذين آتيناهم نصيباً من الكتاب»، وكل صنف من هذه الأصناف له حكمه، ونظامه، والله عندما أمر بالقتال، أمر بقتال صنف من هؤلاء الأصناف حددهم وحدد مواصفاتهم حتى لا يختلط الأمر أمام أعيننا فنساوى بين الجميع، ثم بعد أن حدد مواصفاتهم قال إن القتال سيكون لبعض وليس لكل «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ» من الذين أوتوا الكتاب وليسوا من جموع أهل الكتاب، والقتال سيكون ضد فريق من الذين أوتوا الكتاب، وليس كل الذين أوتوا الكتاب، ولكن من هم الذين أوتوا الكتاب وفقاً للسان القرآنى، وما الفرق بينهم وبين باقى الأصناف الأخرى؟ ولماذا قام الصحابة بفتح البلاد وأخذوا الجزية من أهل الكتاب بالمخالفة للقرآن؟! قبل أن يأتى المقال المقبل أدعوكم للبحث معى فى أى قاموس قرآنى عن الآيات التى جاء فيها «أهل الكتاب» والآيات التى جاء فيها «الذين آتيناهم الكتاب»، والآيات التى جاء فيها «الذين أوتوا الكتاب» والآيات التى جاء فيها «الذين آتيناهم نصيباً من الكتاب» وابحث وتفكر معى، ففهم الإسلام ليس حكراً على أنبياء الدين الرابع، دين التراث.