مع تساقط أوراق الخريف أمام نافذتى الصغيرة، متشحة بألوان الرحيل، مستسلمة للوعد، لرياح لا تنسى المواعيد ولا تنعى الراحلين.. تعبث أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه.. ذلك اليوم الفارق فى حياتنا، فلا يزال هو أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن.. أتوارى من نفسى خجلاً.. وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام ثم أضن عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم.. فهل تسمح لى يا قارئى العزيز أن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به، أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الواقع بالخيال حتى كدت أفقد الخيط الرفيع بينهما.. ولكن لتترفق بحكاياتى، فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما لا يجب أن ننساه.. الترام لم يرحل النهار بعد لكن الشمس توارت خجلاً خلف سحب أكتوبر، وقد بدت أكثر كثافة فى حداد كونى تشارك فيه الطبيعة ككل الأشياء التى أصبحت حزينة. مضى الترام فى الطريق الموازى لكورنيش المنشية فى رتابة وملل.. وكأنه مثقل بهموم وأحزان كل من ركبوه بدا سائقه شارداً كالعادة، بينما رفيقه فى الرتابة حاملا تذاكره باهتة الألوان يتفحص الوجوه الكثيرة الواجمة التى يصطنع بعضها الذرائع للشجار على أتفه سبب من التدافع أثناء حركة الترام.. ■ سيدة شابة تحمل طفلاً رضيعاً.. تتشبث بصعوبة بالمقبض القريب دون أن يحاول الشاب الجالس على المقعد المواجه أن يترك لها مكانه، بعد أن فقد إيمانه بأشياء كثيرة. ■ فتاة ذات دلال سكندرى معروف، وقف فى أقرب نقطة منها ذلك المراهق كالذئب المتحفز، تدفعه غريزة بلا لجام لأخلاق أو قيم، متصيداً أى شىء حتى لو لمسة غير بريئة. ■ بينما تقمص المحصل دور المخبر بالأفلام القديمة للإمساك بذلك الولد الشقى الذى يتعلق كل يوم فى نفس الموعد بالباب الخلفى للترام بملابس مدرسية رثة.. وعندما أمسك به بالأمس ظل يبكى ولكن المحصل رفض التعاطف مع روايته وقد غاب أبوه منذ حرب يونيو 67 ولا يوجد من يعوله.. وبعد توسلات الناس الطيبين تركه على أنه فى المرة المقبلة لن يرحمه. ■ أما ذلك الرجل الأسمر الجالس فى المقعد الخلفى حاملاً ملامح أهل الجنوب متوارياً حتى لا يراه (الواد سيد) الذى كان يعمل معه فى الميناء واختفى بعد أن حصل منه على قرض مائة جنيه من أجل أمه المريضة.. ثم اكتشف أن والدته متوفاة وأن الواد (باع له الترام).. فقرر أن يلقنه علقة ساخنة حتى يعرف أن الله حق. وأثناء مرور الترام أمام بار الشيخ على (وما أعجبه من اسم).. لاحظ الركاب شيئاً غريباً، فقد انتاب المارين بالشارع حالة مفاجئة من الفرح الشديد فأخذوا يقفزون ويهللون.. وفى لحظات تبرع أحد المارة المتحمسين بالقفز على باب الترام وهو يصيح كالرعد: - «عبرنا القناة ورفعنا العلم» ثم قفز دون انتظار.. نظر كل مَن فى الترام إلى جاره وهو خائف أن يصدق.. خائف حتى أن يفرح.. لكن نظرة أخرى للناس فى الطريق والشرفات والمحال بددت كل شك.. فإذا بالجميع يصيحون دون اتفاق: (الله أكبر.. الله أكبر).. وارتمى كل راكب فى حضن جاره الذى لم يره فى حياته من قبل.. لتلتقى الصيحات مع زغاريد النساء والبنات وتهليل الأطفال وتختلط الدموع بالضحكات فى عرس قررت أن تشارك فيه السماء بانفراج أستار السحب عن أجمل شمس لوّنت ذات التراب الزعفران.. وتبدل المشهد فى لحظات وكأن عصا سحرية قد مست كل الأشياء.. فنهض الشاب بحماس للأم حاملة طفلها.. بينما التقت عينا الواد سيد بمعلمه فصاح - «رفعنا العلم يا معلمى»، وأخرج من جيبه بضعة جنيهات وأردف «سامحنى إحنا ماكناش جدع معاك، وعد هنردلك الفلوس كلها»، ليبتسم الرجل الطيب: - «خلاص يا ولد.. سماح لأجل خاطر اليوم المفترج ده»، بينما وضع المحصل يده على الولد الشقى: - تقدر تركب كل يوم أنا هاستسمح حضرة المفتش بشرط أنك تنجح فى دروسك. أما ذلك المراهق فقد فوجئ بالحسناء فى غمرة سعادتها تمسك بذراعه وهى تهلل: - «أيّوه يا سيدى المرسى»، ليربت على يدها ببراءة قبل أن ينسحب لمسافة آمنة وفى عينيه خجل واعتذار. أما السائق المخضرم فقد انطلق بترامه وكأنه طائر رشيق صوته زغرودة عيد، يشق الأرض بحماس كبير، يصاحبه رفيقه بتحصيل التذاكر بإيقاع جميل، ليدرك كل راكب غايته؛ فكل منهم لديه أشياء كثيرة مؤجلة وأشياء أكثر جديدة أجمل.. وأجمل.