تشرفتُ بتحرير مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلى.. تقع المذكرات فى «704» صفحات، وتحمل كل صفحة توقيعه أعلى الصفحة وتوقيعى أسفلها.. ولهذه المذكرات التى تملك حقوق نشرها أسرة «الفريق».. قصة قصيرة. (1) تعرفتُ على الفريق الشاذلى للمرة الأولى فى التسعينات، كنتُ أكتب مقالاً أسبوعياً فى صحيفة «الوفد» فى إطار «مركز الوفد للدراسات السياسية».. وفى إحدى المرات اتصلتُ بالفريق الشاذلى لتوثيق بعض المعلومات. كنتُ أعرف أن «الشاذلى» شخصية جادة وصارمة، وربما لا يرحب بمكالمة هاتفية من كاتب غير معروف.. فكان مدخلى للتعامل معه أننا «بلديّات».. فكلانا من مركز بسيون محافظة الغربية، والمسافة بين قريتَيْنا عشر دقائق، وبين العائلتَيْن صلات نسب غير مباشرة عرفت جانباً منها حين زرت عائلة «الفريق» فى وقت لاحق. سعدتُ كثيراً بدور «بسيون» فى خلق حالة من الودّ والثقة، وتتابعت على أثر ذلك اتصالات، ثم توثّقت الصلة حين دعانى لزيارة منزله ومسجده فى شبراتنا.. وكانت زوجته السيدة «زينات» بالغة الرقة والرقى. وقد مضت الصلة على هذا النحو.. حتى اتصلت به ذات يوم لأجل كتابة مذكراته. (2) بدأت قصة كتابة النص الكامل لحياة الفريق الشاذلى من مكتب «الشيخ ذياب بن زايد آل نهيان» فى «أبوظبى». كنتُ وقتها أعمل فى قناة «أبوظبى»، وكان أن اتصل بى الأستاذ خالد مطلق، وهو كاتب عراقى كان يعمل مع الشيخ ذياب.. وقال: «إن الشيخ ذياب بن زايد بالغ الإعجاب بالفريق الشاذلى، وهو يراه بطلاً عربياً يقع فى مصافّ صلاح الدين الأيوبى وسيف الدين قطز.. ويتمنى أن يعرف شباب العرب هذه السيرة المجيدة.. ليتعلموا منها، ولذلك هو يريد نشر مذكرات الفريق الشاذلى». قلت: «ولكن الفريق الشاذلى نشر مذكراته حول حرب أكتوبر».. قال: «نريد مذكراته الكاملة منذ ميلاده وإلى اليوم، وبالطبع فى القلب منها مذكراته بشأن حرب أكتوبر باعتبارها العصب الرئيسى للكتاب».. قلت له: «سأتصل بالفريق الشاذلى وأردّ عليك». قال: «الردّ هو نعم، لا يوجد بديل آخر.. لا تترك له فرصة للاعتذار، ولأنك ستكون كاتب المذكرات فإن القصة كلها أصبحت معك». (3) اتصلت بالفريق الشاذلى وعرضت عليه الأمر، لكننى فوجئت برفضه التام للفكرة. حاولت أن أعيد العرض ولكنه كان حاسماً: «لا أريد.. عليك أن تنسى هذا الموضوع». أصابنى نصف يأس، وواصلت بالنصف الثانى محاولاً الفوز فى المعركة.. ولقد حدث فعلاً، ولكن بعد ستة شهور.. وقد قال لى لاحقاً: لا أعرف كيف أقنعتنى بهذه المذكرات. كان منطقى فى الإقناع أنه يجب أن يصدر مجلداً كبيراً يحوى كل حياته، وأن يكون ذلك واضحاً ومعلناً، وأن يتم وهو فى مصر، خلافاً لكتبه السابقة التى صدرت خارج البلاد.. وقلت له: إذا لم تكتب سيكتب الآخرون.. والخصوم فى وضع انتظار، ومن الأنسب أن تكون هناك رواية رسمية شاملة، تكون الأساس فى العرض والشرح، وتكون المرجع فى الجدل والردّ. (4) تعلمت الكثير من الفريق الشاذلى أثناء كتابة هذه المذكرات، التى ساعدنى فيها كثيراً الأستاذ هشام يونس، رئيس تحرير «بوابة الأهرام». كان أول ما تعلمت حين سألنى الفريق الشاذلى عن الجدول الزمنى للكتابة والنشر.. قلت له: ب«الوَيَمْ» عدة أشهر.. يعنى تقريباً هذا العام.. قال لى: هذه بداية غير موفقة.. يعنى إيه «الوَيَمْ».. مفيش حاجة فى العالم اسمها «الوَيَمْ».. ويعنى إيه «عدة أشهر» ويعنى إيه «تقريباً». سأعتبر أنك لم تتحدث بعد.. سأحذف إجابتك وأسألك من جديد لأنك لم تجب أصلاً. قل لى: كم ساعة سنجلس؟ وما مواعيد هذه الساعات؟ من أى ساعة إلى أى ساعة؟.. بالليل أو بالنهار؟.. وما خريطة الأسبوع؟.. وما وضع يوم الجمعة؟.. وما أول موعد لتقديم أول نص؟ وما هذا النص؟ وكم تطلب منّى من الوقت لمراجعته وردّه إليك؟.. أريد خطة دقيقة لا مجال فيها للخطأ أو الغموض. (5) ليس من المناسب أبداً أن تتحدث إلى الفريق الشاذلى دون أن ترتدى الملابس العسكرية وتنزل الجبهة ومعك الخرائط والخطط.. وتكون جميع حساباتك لا تحتمل سوى شىء واحد.. الصواب. وأذكر مرة أننى قلت له: متى نلتقى غداً؟ قال: الثامنة صباحاً.. ثم أضاف: طبعاً.. لا تأخير، ولا ينبغى أن أقول: لا تأخير.. قلت له: سأكون موجوداً فى السابعة صباحاً. وقد أردت بهذه المزايدة أن أؤكد التزامى ونشاطى.. ولكننى فوجئت به يقول: السابعة صباحاً!.. هذا أيضاً خلل، قبل الثامنة مثل بعد الثامنة، الموعد موعد، قبله خطأ وبعده خطأ.. إننى أكون منشغلاً قبل الموعد وبعد الموعد.. والمجىء مبكراً مثل المجىء متأخراً.. يُربِك جدول الأعمال. الثامنة هى الثامنة، ومسموح بالمجىء مبكراً أو متأخراً لمدة «دقيقة».. أى سأنتظرك من السابعة وتسع وخمسين وحتى الثامنة ودقيقة! وفى مرة نادرة تأخرت على الفريق الشاذلى عشر دقائق، ولحسن الحظ أنه كان رائق الذهن فى ذلك اليوم.. لكنه نظر فى ساعته وقال لى: هل تعرف يا «أحمد».. لو أننى اعتمدتُ على أمثالك فى أثناء التجهيز والتنفيذ لحرب أكتوبر لكانت إسرائيل قد وصلت إلى أفريقيا! الجزء الثانى.. الأسبوع المقبل حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر