كنت قد نشرت مقالاً بجريدة «الوفد» فى أبريل 2007 بعنوان «المأزق»، عرضت فيه نماذج مما كانت مصر تعيشه من مشكلات تسببت فيها تصرفات وقرارات نظام مبارك، الذى كان لا يرى الأمور إلا من زاوية مصالحه وضرورات استمراره إلى الأبد بلا منازع. وجاء فى المقال «إن الوطن قد وصل إلى طريق مسدود لا مخرج منه سوى بتغيير ديمقراطى شامل على كافة الأصعدة يضع اتخاذ القرارات المصيرية فى أيدى أبناء الوطن المهمومين بمشكلاته والحريصين على مستقبله ويفتح الطريق لمجتمع يقوم على التعددية الحزبية الحقيقية بلا موانع أو قيود، ويسوده القانون والالتزام بتداول السلطة». وأجدنى أعود إلى استخدام ذات العنوان لمقال اليوم لأعبر عن مأزق جديد يعيشه الوطن، لأسباب تختلف جذرياً عن مسببات مأزق 2007، وتنبع من القلق أن تكون الفرصة التاريخية التى أوجدتها ثورة الشعب فى 30 يونيو قد أخذت تتفلت من بين أيدينا وبات انطلاق الوطن إلى آفاق تنموية وديمقراطية حقيقية يبدو صعب التحقيق بعد أن كنا قد اعتبرناه من المسلمات قريبة المنال! وبرغم تغير الظروف كلياً بعد قيام الشعب بثورتيه فى 25 يناير ثم 30 يونيو، وعلى الرغم من إسقاط مبارك ومرسى، فإن ثورتى الشعب لم تنجحا فى إسقاط نظامى حكمهما! فلا يزال سدنة نظام مبارك ورموزه ورجال أعماله وأعضاء لجنة سياسات نجله «جمال» وأبواق إعلامه يحاولون ببراعة ودأب العودة إلى ما كانوا يمارسونه أيام مبارك وحزبه الوطنى، ونراهم يتصدرون المشهد الإعلامى والفضائيات التى يملكها رجال أعمال لجنة السياسات، ويخططون لغزو مجلس النواب المقبل الذى أنتجته «لجنة الخمسين» برئاسة أحد رموز العصر المباركى وجعلت منه، أى المجلس، شريكاً فى الحكم تزيد سلطاته على سلطات رئيس الجمهورية، ويهدد فى حال نجحت رموز نظام مبارك فى الحصول على أغلبية بأن تعادى أهداف خارطة المستقبل وتوجهات التنمية الوطنية والديمقراطية وتهدد بتقويض كل ما يفعله الرئيس السيسى لمحاولة تحقيق رؤيته للمستقبل المصرى. من جانب آخر، لا يزال الإرهاب الإخوانى سادراً فى غيه مهدداً بتقويض أركان الدولة المدنية الديمقراطية فى مصر، ومستقوياً بتنظيمه الدولى وتمويل قطر وتركيا ودعم الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبى. ولا تزال عناصر جماعة الإخوان الإرهابية تعشش فى كل مؤسسات الدولة المصرية، ولا يزال الحكم الجديد يتعامل مع الخطر الإخوانى الإرهابى فى داخل البلاد بآليات غير ثورية وغير حاسمة غير قادرة على القضاء على منابعه وقياداته الفكرية وتنظيمه السرى ومصادر تمويله. ولا تزال الدولة المصرية بعد 30 يونيو مترددة فى إصدار قانون ثورى يقطع دابر الإرهاب، ولولا قوات الشعب المسلحة وشرطته الوطنية وتصديهما للهجمة الإرهابية الإخوانية وإرهاب الجماعات التكفيرية فى سيناء، ولولا قضاء مصر الشامخ الذى أصدر أحكاماً بحظر الجماعة الإرهابية وجمعيتها ومصادرة أموالها وحل ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة لكانت الجماعة وحلفاؤها تمارس إرهابها بكل حرية! ورغماً عن تنفيذ الاستحقاقين الأولين من خارطة المستقبل، إنجاز الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية، لا يزال الاستحقاق الثالث والأخير وهو إجراء الانتخابات التشريعية غير محدد موعده، فلم تصدر قوانين تقسيم الدوائر الانتخابية ولا مباشرة الحقوق السياسية، ولا توافقت الحكومة على بحث اعتراضات الأحزاب والقوى السياسية على قانون انتخابات مجلس النواب! من ناحية أخرى لم يتم تفعيل النص الدستورى بعدم تأسيس أحزاب على أساس دينى ولا تزال الأحزاب الدينية والسلفية قائمة تستعد لاحتلال مواقع الإخوان فى مجلس النواب «المقبل»! وبعضها انسلخ عن «تحالف دعم الشرعية» الموالى للجماعة الإرهابية للتسلل إلى مجلس النواب المقبل متسترين وراء لافتات لأحزاب مدنية! ورغم الأحداث الجسام التى مر بها الوطن منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى الآن، فإن الأحزاب السياسية «المدنية» على اختلاف توجهاتها لم تزل على حالها من التشرذم وعدم التوافق والغياب الفعلى عن الشارع السياسى وتضاؤل أعداد أعضائها وكوادرها القيادية الفاعلة. ومن المشكوك فيه أن تنجح أكثر تلك الأحزاب الهامشية فى تحقيق نتائج ذات بال فى أى انتخابات برلمانية أو محلية مقبلة، برغم الضجة التى تثيرها حول التحالفات ومحاولات التنسيق الانتخابى فيما بينها. وكأن شيئاً لم يحدث فى المحروسة التى أسقط شعبها رئيسين فى أقل من ثلاث سنوات. فما زال الجهاز الإدارى المركزى للدولة وأجهزة المحليات تعانى من تضخم أعداد العاملين وترهل الهياكل التنظيمية وانخفاض الكفاءة، فضلاً عن الفساد وتدنى الخدمات التعليمية والصحية وخدمات النقل والإسكان والنظافة التى يحصل عليها بشق الأنفس. ولا تزال العشوائيات قائمة مع ازدياد أعداد المواطنين المقيمين فى مجاهلها. ولا يزال قطاع الأعمال العام يبحث عن منقذ بعد أن دمر الإهمال الرسمى ما تبقى منه بعد جرائم الخصخصة التى رعاها «مبارك». وما زالت الأمية فى أعلى مستوياتها، وما زالت الصحف القومية تواصل النهج المتبع التقليدى فى تمجيد الحاكم أياً من كان وتبشر المصريين، الذين يعيش أكثر من نصفهم تحت خط الفقر بما يقل عن دولار أمريكى واحد فى اليوم ويعانون البطالة والمرض، أن الاقتصاد المصرى أقوى مما كان وأن معدل النمو فى العام المقبل سيكون 3.1% على مسئولية جريدة الأهرام. تلك عينة من مظاهر المأزق الذى يعيشه المصريون بعد ثورتين. والسؤال ماذا سيكون عليه الحال إذا ما استمرت الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية على ما هى عليه الآن؟ والإجابة تتوقف على سؤالين آخرين؛ أين رؤية المستقبل للرئيس السيسى من كل هذا؟ وأين خطة الحكومة لتفعيلها؟ التخطيط والأداء الثورى غير التقليدى هما الحل!