الفضلاء قراء صحيفة «الوطن».. تابعت مع حضراتكم مجموعة المقالات التى كتبها الدكتور خالد منتصر حول نظرية التطور البيولوجى ل«داروين»، كما تابعت ما دار حول المقالات من حوار. ولما كنت مهتماً بهذه النظرية وتطبيقاتها الفلسفية وانعكاساتها الدينية فقد رأيت أن أشارككم رؤيتى حول هذه التطبيقات والانعكاسات. أولاً: لا شك أن «داروين» كان عالماً فذاً، قضى فى رحلات بحرية مدة خمسة أعوام، جمع خلالها عينات من كائنات مختلفة من أنحاء العالم، ثم بذل جهداً مضنياً لمدة 25 عاماً فى دراسة عيناته حتى خرج بنظريته. وقد شارك «داروين» العلماء الأفذاذ الآخرين (أمثال إسحق نيوتن وأينشتاين) رأيهم بأن لهذا الكون البديع ولهذه الحياة خالقاً مبدعاً. وقد ذكر ذلك فى سيرته الذاتية حين قال: «من الصعب جداً، بل من المستحيل، أن نتصور أن كوناً هائلاً ككوننا، وبه مخلوق يتمتع بقدراتنا الإنسانية الهائلة، قد نشأ فى البداية بمحض الصدفة العمياء، أو لأن الحاجة أم الاختراع. وعندما أبحث حولى عن السبب الأول وراء هذا الوجود أجدنى مدفوعاً إلى القول بعقل ذكى، ومن ثم فإنى أؤمن بوجود الإله». (السيرة الذاتية لداروين - طبعة لندن: كولنز 1958 - ص 92، 93). وقد صرح توماس هكسلى (تلميذ داروين الأول) بأن هناك عللاً أعلى تحكم التطور، لم تقترب منها النظرية، ومن ثم فإن التطور مفهوم علمى فلسفى لا يقترب من الديانات. ثانياً: إذا كان «داروين» والمجتمع العلمى وقتها لم يروا تعارضاً بين نظريته وبين الإلوهية والدين، فقد وجد فيها الماديون تفسيراً لتعدد الكائنات ظنوا أنه يغنيهم عن الاحتياج لإله، أى أن الماديين قد وجدوا فى النظرية ظهيراً علمياً يدعم فكرهم المادى، فاستماتوا فى الدفاع عنها، بل ونسبوا إليها ما لم يقله «داروين»، لقد جعلوا منها ديانة غير إلهية. وفى ذلك قال عالم الحفريات الصينى الكبير جن يوان شن: فى الصين تستطيع أن تنتقد «داروين» ولا تستطيع أن تنتقد الحكومة، وفى أمريكا تستطيع أن تنتقد الحكومة لكن لا تستطيع أن تنتقد «داروين». لقد أصبح الوسط العلمى يقبل أن تشكك من سرعة الضوء أو مقدار الجاذبية (وهى ثوابت علمية)، لكن لا يقبل أن تشكك فى الداروينية. بل لقد أصبح من يعارض الداروينية من أساتذة الجامعة فى الولاياتالمتحدة يُحالون إلى الأعمال الإدارية ويُمنعون من تدريس الطلبة، وقد جسد فيلم «المطرودون Expelled» الشهير هذه المأساة. ثالثاً: تقوم نظرية «داروين» على عنصرين أساسيين: 1) أن هناك سلفاً واحداً مشتركاً لجميع الكائنات الحية، وهو الخلية البكتيرية، وأن جميع الكائنات قد نشأت تطوراً عن هذا السلف. والأدلة العلمية حتى الآن فى صف «مفهوم التطور» هذا، وإن كان هناك من الأدلة الحديثة ما يعارضه. 2) أن عملية التطور قد حدثت بشكل عشوائى، ولعبت فيها الصدفة الدور الأساسى. والأدلة العلمية المحايدة الآن ضد مفهوم العشوائية، وتثبت بيقين عجزه عن تفسير حدوث التطور. بذلك وجد العلماء المنصفون أنفسهم فى مواجهة موقف لا يُحسدون عليه؛ إقرار بالتطور وعجز الآلية التى وصفها الدراونة. فلجأ الكثيرون منهم إلى ما يحل هذا التعارض، فطرحوا مفهوم «التطوير الإلهى» الذى يقبل حدوث التطور ويتبنى فى الوقت نفسه أن الإله قد استخدم قوانين الطبيعة فى إحداث النقلات من كائن لآخر. ومن هؤلاء العلماء فرانسز كولنز، أكبر علماء البيولوجيا فى كوكبنا الآن، فقد كان رئيس مشروع الجينوم البشرى الذى يعد أكبر إنجاز بيولوجى فى تاريخ البشرية، وقد قال فى ذلك الصدد: «من الذى يحجر على الإله فى أن يستخدم آلية التطور فى خلق الكائنات». وقد سبق أن تبنى د. مصطفى محمود، رحمه الله، هذا المفهوم منذ أكثر من أربعين عاماً. رابعاً: لا يستطيع العلم فى علوم البدايات (بداية الكون والحياة الإنسان) أن يقدم حقائق علمية نهائية، فهذه الأحداث أصبحت بعيدة تماماً عن الرصد أو القياس أو التجريب. ومن ثم لا ينبغى ادعاء أن «التطور البيولوجى» قد صار حقيقة علمية، ولكن الصواب أن نقول إن «التطور» هو «أفضل التفسيرات» لما تجمع لدى العلماء من معلومات ومفاهيم علمية، وهذا التفسير قابل للتغيير تبعاً لما يستجد من اكتشافات علمية. خامساً: تُعتبر آيات خلق الإنسان فى القرآن الكريم من الآيات المتشابهات، التى تحتمل أكثر من تأويل، ويأتى كل عصر فيها بجديد. وقد ذكر العديد من كبار علماء الإسلام مثل (حسين الجسر، وجمال الدين الأفغانى، والإمام محمد عبده، والإمام محمد الغزالى، والشيخ القرضاوى) أن آيات الخلق فى القرآن الكريم تحتمل التأويل فى ضوء مفهوم الخلق التطورى «إذا ثبت علمياً». وقد سبق هؤلاء بالقول بالتطور البيولوجى الجاحظ وإخوان الصفا وابن خلدون وابن مسكوية، وقد فهم الكيميائى والفيلسوف والمؤرخ الأمريكى «جون ويليام درابر» (1811م - 1882م) عن هؤلاء أن الإسلام يقبل القول بالتطور، وتحدث عن «نظرية التطور المحمدية» «Mohammedian Theory of Evolution» التى سبقت نظرية «داروين» بأكثر من ألف عام. وقد طرح «درابر» فهمه هذا فى كتابه «تاريخ الصراع بين الدين والعلم» History of Conflict Between Religion and Science. سادساً: جاء فى القرآن الكريم الأمر بأن نتحرى بالبحث العلمى كيفية بداية الخلق. «قُلْ سِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ». (سورة العنكبوت - 20) «أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17) أى إن معرفة كيفية الخلق (الآلية) نتوصل إليها بالبحث العلمى. وفى الوقت نفسه يحدثنا القرآن الكريم عن بعض المفاهيم حول الخلق، وقناعتى أن الطرح القرآنى المقصود منه إظهار «القدرة والحكمة» الإلهية، وليس الآلية، فالقرآن الكريم ليس بكتاب علم. ومن ثم فالطرحان متكاملان؛ الطرح العلمى يقدم الآلية، والطرح الدينى يقدم القدرة والحكمة الإلهية. سابعاً: لما كان الطرح العلمى متغيراً، ولا يستطيع أن يقدم حقائق نهائية، وكذلك يحتمل الطرح الدينى التأويل تبعاً لمعطيات كل عصر، أصبح من المستحيل الربط بينهما إلا بمنظور التكامل، وليس بمنظور أن يتم تقييم أحدهما فى ضوء الآمر، أن يحكم أحدهما على الآخر. ومن ثم، لا ينبغى أن ينبرى بعض رجال الدين لتكذيب نظرية علمية بناء على فهمهم لآيات الخلق فى القرآن الكريم، فليس من المنهج العلمى عرض المفاهيم العلمية على فهم رجال الدين، بل للمنهج العلمى منهجه الخاص فى التقييم، وهو تحكيم الأقران والنظراء. كذلك لا ينبغى أن يتصدى بعض رجال العلم لتكذيب مفاهيم دينية، ويتمادوا فيكذبون الدين وينكرون الألوهية. وأختم مقالى بصيحة تحذير؛ ففى نهاية العصور الوسطى حدث صراع مشابه فى أوروبا بين رجال العلم وبعض رجال الدين، ذلك الصراع الذى أنتج أعتى موجة إلحادية فى تاريخ البشرية، وأخشى ما أخشاه أن تتشابه المقدمات فتتشابه النتائج، فنتحسر قائلين: ما أشبه الليلة بالبارحة.