كلما سافرت اصطحبت معى كتاب «أدب الدنيا والدين» للعلامة الكبير والقاضى الشهير «الماوردى».. الذى كتبه منذ قرابة ألف عام.. ولكنك إذا قرأته تراه صالحاً لكل عصر؛ إذ فيه من الآداب والأخلاق والقيم والمعانى ما يشرح صدرك ويزيل همك.. ويوضح لك كيف تتعامل مع ربك من جهة، وكيف تتعامل مع الناس من جهة أخرى، وكيف تتعامل مع نفسك من جهة ثالثة. وهذه هى المطالب الثلاثة التى تحدث عنها علماء الأخلاق والتربية والتصوف الأوائل وعلى رأسهم الهروى والغزالى وابن القيم، ولخصوها فى قول جامع: «أن تعيش مع الحق بغير خلق، وأن تعيش مع الخلق بغير نفس.. وأن تعيش مع النفس بالمراقبة والمحاسبة». تأملت باب الصداقة والأخوة عند «الماوردى» فوجدته رائعاً جداً.. والناس اليوم فى حاجة ماسة إليه، خاصة أن أكثر الناس الآن لا يعرف صديقه إلا عند المصلحة والغرض والهوى. لقد كادت الصداقة والأخوة الحقة تنتهيان تحت ضربات الخصام السياسى الذى نشب بين الناس، فحلت الكراهية والبغضاء محل الأخوة والصداقة، بل تحول كثير من الصداقات إلى عداوات تحت مطرقة الصراع السياسى الذى أكل الأخضر واليابس من مودة القلوب ومحبة النفوس. والآن نذهب إلى الإمام العظيم «الماوردى» وهو يتحدث عن خصال الصديق الحق.. فلخصها فى أربع خصال هى: - الخصلة الأولى: عقل موفور يهدى إلى مراشد الأمور.. فإن الحمق لا تثبت معه مودة ولا تدوم لصاحبه استقامة. وقد رُوى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «البذاء لؤم، وصحبة الأحمق شؤم».. والبذاء هو قلة الأدب والحياء بلغة المصريين. وقال بعض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضرراً من مودة الأحمق؛ لأن الأحمق ربما ضر وهو يقدر أنه ينفع.. والعاقل لا يتجاوز الحد فى مضرته؛ فمضرته لها حد يقف عليه العاقل. - والخصلة الثانية: الدين الواقف بصاحبه على الخيرات.. فإن تارك الدين عدو نفسه، فكيف يُرجى منه مودة غيره؟ وقال بعض الحكماء: اصطفِ من الأصدقاء ذا الدين والحسب، والرأى والأدب، فإنه ردء لك عند حاجتك، ويد عند نائبتك، وأنس عند وحشتك، وزين عند عافيتك. - والخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق، مرضى الأفعال، مؤثراً للخير آمراً به، كارهاً للشر ناهياً عنه، فإن مودة الشرير تكسب الأعداء وتفسد الأخلاق.. ولا خير فى مودة تجلب عداوةً وتورث مذمةً، فإن المتبوع تابع صاحبه. وقال بعض الحكماء: مخالطة الأشرار على خطر، والصبر على صحبتهم كركوب البحر الذى من سلم منه ببدنه من التلف فيه، لم يسلم بقلبه من الحذر منه.. وقال بعض البلغاء: صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار. - والخصلة الرابعة: أن يكون من كل واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبة فى مؤاخاته.. فإن ذلك أوكد لحال المؤاخاة وأمد لأسباب المصافاة؛ إذ ليس كل مطلوب إليه طالباً ولا كل مرغوب إليه راغباً.. ومن طلب مودة ممتنع عليه. فإذا استكملت هذه الخصال فى إنسان وجب إخاؤه، وتعين اصطفاؤه.. وبحسب وفورها فيه يجب أن يكون الميل إليه والثقة به. وقال بعض الحكماء: الرجال كالشجر؛ شرابه واحد وثمره مختلف. وقد قال بعض الحكماء: ليس بلبيب من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً. وقال المأمون: الأصدقاء ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبداً. وقد تنبه «الماوردى» إلى خصال الناس فى اصطفاء الأصدقاء؛ فبعضهم يتوسع فى الصداقة، وبعضهم يكتفى بصديق أو صديقين فحسب.. فقال فى هذا الأمر: وقد اختلفت مذاهب الناس فى اتخاذ الأصدقاء: - فمنهم من يرى أن الاستكثار منهم أولى؛ ليكونوا أقوى منعةً ويداً، وأوفر تحبباً وتودداً، وأكثر تعاوناً وتفقداً.. وقيل لبعض الحكماء: ما العيش؟ قال: إقبال الزمان، وعز السلطان، وكثرة الإخوان.. وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه. - ومنهم من يرى أن الإقلال منهم أولى.. لأنه أخف إثقالاً وكلفاً، وأقل تنازعاً وخلفاً. وقال الإسكندر: المستكثر من الإخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، والمقل من الأصدقاء المتخير لهم كالذى يتخير الجوهر. وقال عمرو بن العاص: من كثر أصدقائه كثر غرماؤه.. وقال إبراهيم بن العباس: مثل الأصدقاء كالنار قليلها متاع وكثيرها بوار. ثم بيّن «الماوردى» أصناف الأصدقاء، فقسمهم إلى أربعة أنواع: منهم من يعين ويستعين، ومنهم من لا يعين ولا يستعين، ومنهم من يستعين ولا يعين، ومنهم من يعين ولا يستعين. وكتب يقول عن هذه الأنواع ما يلى: فأما المعين والمستعين فهو منصف يؤدى ما عليه ويستوفى ما له.. فهو القَروض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الاستغناء، وهو مشكور فى معونته، ومعذور فى استعانته.. فهذا أعدل الإخوان. وأما من لا يعين ولا يستعين فقد منع خيره وقمع شره.. فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى. وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كل، ومهين مستذل، قد قطع عنه الرغبة، وبسط فيه الرهبة، فلا خيره يرجى، ولا شره يؤمن. وحسبك مهانةً من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقل عند استقلاله، فليس لمثله فى الإخاء حظ ولا فى الوداد نصيب. * وأما من يعين ولا يستعين فهو كريم الطبع.. مشكور الصنع.. وقد حاز فضيلتى الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلاً فى نائبة، ولا يقعد عن نهضة فى معونة.. فهذا أشرف الأصدقاء نفساً وأكرمهم طبعاً.