صوت أنينه يفوق أزيز الرصاص، عيناه حائرتان تخشيان الموت قبل تحرير الأقصى، لا يجد سوى ظهر أبيه، الذي يحاول الاختباء وراء حائط خرساني، فشل في حماية طفله الصغير من رصاصة طائشة سكنت قدمه، ل"يعشش في حضن والده طائراً خائفاً من جحيم السماء"، وينادي "احمني يا أبي من الطيران إلى فوق، إن جناحي صغير على الريح"، لتسكن رصاصة أخرى ذراع أبيه، وتنهمر عليهم قوات الاحتلال بالطلقات على مدار 27 دقيقة، يصاب الصغير بطلقة أخرى في بطنه، غير عابئة بإشارات الاستغاثة من اليد السليمة لأبيه، ل"يرى موته قادما لا محالة، لكنه يتذكر فهدا رآه على شاشة التلفزيون، فهدا قويا يحاصر ظبيا رضيعا". "ساعة ترصد الكاميرا حركات الصبي الذي يتوحد في ظله.. وجهه، كالضحى، واضح، قلبه، مثل تفاحة، واضح، وأصابعه العشر، كالشمع، واضحة، والندى فوق سرواله واضح"، كلمات رثى بها الشاعر محمود درويش، الطفل محمد الدرة، الذي تحول إلى رمز الانتفاضة الثانية للأقصى. مشهد خالد في ذاكرة التاريخ منذ أربعة عشر عامًا، حينما قتلت قوات الاحتلال الطفل محمد الدرة، ذو ال12 عاما، يوم 30 سبتمبر 2000، في شارع صلاح الدين، بقطاع غزة، وهو يحتضن أبيه، جمال الدرة، النجار الذي كان يعيش رفقة أولاده وزوجته، في مخيم البريج للاجئين، الذي تديره منظمة "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة. يوم مشؤوم أغلقت فيه مدرسة الصبي، بسبب انطلاق الانتفاضة الثانية، ليشاء القدر أن يذهب محمد، رفقة أبيه لشراء سيارة من مزاد السيارات، لكن الحالة الاقتصادية للوالد لم تساعده في شراء السيارة المنشودة، ليعود بابنه، الذي كان يريد الرجوع إلى البيت، من دون دراجة، أو قميص جديد، يريد الذهاب إلى المقعد المدرسي، إلى دفتر الصرف والنحو. وكعادة العدو الصهيوني - فهو دائما يتبرأ من كل أفعاله الدنيئة ليلصقها بالمقاومين الفلسطينيين- في البداية أعرب الاحتلال عن أسفه لمقتل الدرة، ولكنهم أنكروا فعلتهم بعدما اقترفوها بسبع سنوات، في عام 2007، مدعين أن الفصائل الفلسطينية هي من قتلت الدرة. ونظم اليهود المتطرفون حول العالم، حملة ضد مدير مكتب قناة "فرانس 2"، شارل أنديرلان، بسبب الفيديو الذي فضح الممارسات الإسرائيلية في فلسطين، وتناقله مناصرو القضية الفلسطينية بشكل كثيف، ما شكل إزعاجًا لليهود المدافعين عن إسرائيل في العالم. مات محمد، وانتفض الرأي العام العالمي، لكن ذلك لم يمنع جيش الاحتلال من ممارسة جرائمه، فالدرة يموت كل يوم، ولكن باسم وشكل مختلف، وسط صمت عربي وعالمي، فشل في إيقاف العدو، وكان آخر هذه الجرائم، الحرب على غزة، والتي امتدت من 8 يوليو إلى 20 أغسطس 2014، راح ضحيتها مئات الأطفال الفلسطينيين، الذين فشلت عدسات الكاميرات في تصويرهم، ليكونوا "درة" جدد، يساهموا في انتفاضة جديدة.