في الثلاثين من سبتمبر منذ أربعة عشر عاما داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وبالتحديد في شارع صلاح الدين بقطاع غزة استشهد الطفل محمد الدرة، رمز الانتفاضة الثانية للأقصى، الفتى ذو الثانية عشر عاما الذي احتمى في حضن والده جمال الدرة، خلف حاجز خرساني خوفا من بطش رصاص العدو الصهيوني الذي لا يعرف الرحمة أو الشفقة، رصاص الاحتلال الصهيوني الغاشم الذي قتل بدم بارد براءة طفل كان كل هدفه هو والده أن يعودا إلي بيتهم بعد أن فشلا في شراء سيارة بسعر يناسب حالة الوالد كعامل نجارة بورشة بناء. ظل البطل محمد الدرة، في حضن أبيه ل 27 دقيقة وسط تراشق الرصاص بين قوات الاحتلال وقوات الأمن الوطني الفلسطيني، بعد ذلك اخترقت رصاصة قدم محمد، فراح يصرخ من الألم والخوف، ثم استقرت رصاصة في ذراع أبيه حين احتضنه لعله يحميه من رصاص الاحتلال، لم تعبأ قوات الاحتلال بهذا المشهد، بل انهمرت عليهما بالرصاص فأصيب الصغير البريء برصاصة أخرى في بطنه، مال معها جسده أرضا بجوار أبيه المستغيث بإشارات من يده الثانية، ليسطر بها سيرة بطل ستظل ذكرى لأجيال قادمة، في صورة هزت مشاعر وضمائر العالم الإنساني. ولد محمد الدرة، عام 1988 وعاش مع والده الذي يعمل نجاراً ومصمما للمنازل وأمه أمل، و6 من أشقائه في مخيم البريج للاجئين الذي تديره منظمة الأونروا التابعة لهئية الأممالمتحدة، كان محمد حينذاك في الصف الخامس الابتدائي، ويشاء القدر في ذلك اليوم المشؤوم أن تكون المدرسة قد أغلقت أبوابها بسبب الاحتجاجات التي تزامنت مع الانتفاضة الثانية للأقصى، فيقرر الأب أن يأخذ ابنه لكي يشتري سيارة من مزاد السيارات، وبعد مهمة شاقة في البحث لم يجد الأب السيارة المنشودة نظرا لحالته المادية الفقيرة، فيقرر أن يعود مع صغيره لبيتهم البسيط داخل مخيم اللاجئين فإذا به يعود بصغيره جثة محمولة على كفن لتستقبل الأم أمل، خبر الوفاة الذي جعل قلبها ينفطر، ولكن ما ألهمها الصبر هو تحول الطفل إلى أيقونة في العالم العربي تعبر عن القضية الفلسطينية وتلهم الناشطين. التقطت عدسة المصور الفرنسي شارل إندرلان، الذي يعمل بقناة فرنسا2 كافة تفاصيل الحادث وأكد على أن النار جاءت من جانب القوات الإسرائيلية وأن الطلقات أصابت الطفل من الأعلى من خلال أبراج المراقبة الإسرائيلية، وقد صرح بذلك المصور طلال أبو رحمة، في التقرير الخاص بمنظمة حقوق الإنسان في غزة في أكتوبر من عام 2000 وقال أبو رحمة: إنهم كانوا ينظفون المنطقة، بالتأكيد قد رأوا الأب، كانوا يصوبون ناحية الطفل، وذلك ما فاجأني، نعم، كانوا يطلقون النار تجاه الطفل، ليس لمرة واحدة بل لمرّات عديدة. وكعادة العدو الصهيوني فهو دائما ما يتبرأ من كل أفعاله الدنيئة ليلصقها بالمقاومين الفلسطنيين، في البداية أعرب الاحتلال عن أسفه لمقتل الدرة، ولكن عندما اشتد الرأي الدولي والمحلي عليهم أنكروا فعلتهم بعدها بسبع سنوات في عام 2007 مدعين أن الفصائل الفلسطينية هي من قتلت الدرة، وخرج اليهود المتطرفون حول العالم الذين نظموا حملة ضد مدير مكتب قناة "فرانس2″ شارل أنديرلان، بسبب الفيديو الذي فضح الممارسات الإسرائيلية في فلسطين، وتناقلها مناصرو القضية الفلسطينية بشكل كثيف ما شكل إزعاجًا لليهود المدافعين عن إسرائيل في العالم. وبدأ الإسرائيليون ينظمون حملة لكي ينفوا التهم عن أنفسهم، ويلقوا بها على الفلسطينيين، وتعالت الأصوات داخل إسرائيل تطالب بإعادة التحقيق في الحادث والزعم بأن الدرة قتل بنيران فلسطينية حتى لو كان بنسبة ضئيلة، ولكن كيف يمكن إعادة التحقيق وقد أزالت قوات الاحتلال آثار الحادث، لذا لجأ الإسرائيليون لأحد الفيزيائيين الذي يعمل لصالح جيش الاحتلال ويدعى ناحوم شاحاف، الذي تطوع للعمل لكي يثبت المزاعم الصهيونية، فطلب في 19 أكتوبر من سنة 2000 من رئيس الوحدة العسكرية المسؤولة عن الجريمة الجنرال يوم توف ساميا، الموافقة على إعادة بناء مسرح مشابه للجريمة لكي يؤكد أن الجنود الإسرائيليين لا يمكنهم، من المكان الذي تواجدوا فيه أن يكونوا هم من أصاب الدرة. وبعد عدة أيام صرح شاحاف، بما كان يحلو لسلطات الاحتلال أن تسمعه ألا وهو أن الدرة قد استشهد على يد المقاومة الفلسطينية، وفي سنة 2002 قامت استير شابيرا، بإعداد فيلم وثائقي للقناة الألمانية ARDعنوانه "ثلاث طلقات وطفل ميت"، يتضمن رواية شاحاف للحادثة، وهذا هو الفيلم الذي تلقفه بعض اليهود الفرنسيين المتشددين المدافعين بشراسة عن إسرائيل وبدؤوا حملة شرسة ضد قناة فرانس2فأعدت شكاوى تطالب ببث الشريط الكامل الذي التقطه طلال أبو رحمة، كما طالبت ببث الوثائقي الذي أعدته شابيرا للمقارنة بينهما، ولكن اُقفل الملف على هذا النحو، ومع الأيام تناسى المجتمع الدولي جرائم العدو الصهيوني وبقي الوضع كما هو، واستمرت جرائم الاحتلال. حقا مات الدرة، ولكن تظل الذكرى وتظل المقاومة، تظل الثوابت وتظل الأرض شاهدة على اغتصاب البراءة ونزع الحياة من هذا الجسد النحيل، تظل القدس وتظل فلسطين، ويظل العالم صامتا عن جرائم الإحتلال، وأخيرا، تظل المعركة مستمرة.