محافظ أسوان يكرم الحاصلين على المراكز الأولى بالدورات والبرامج التدريبية بسقارة    كل ما تريد معرفته عن صندوق إعانات الطوارئ للعمال    تراجع طفيف في أسعار الذهب مع تقلص التوقعات بخفض الفائدة في 2024    بايدن يلزم الصمت في مواجهة الحراك الطلابي الرافض للحرب على غزة    مسؤول أممي إعادة إعمار غزة يستغرق وقتًا طويلًا حتى 2040    إعلان عقوبات مباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    تصفيات كأس العالم| فيفا يحدد مواعيد مباراتي منتخب مصر أمام بوركينا فاسو و غينيا    لتعريض حياة المواطنين للخطر.. القبض على شخصين لاستعراضهما بدراجتين ناريتين في القاهرة    "مشنقة داخل الغرفة".. ربة منزل تنهي حياتها في 15 مايو    الغربية تواصل حملاتها التفتيشية المفاجئة على الأسواق والمخابز والمطاعم    القناطر الخيرية تستعد لاستقبال المواطنين في شم النسيم    تعطل رحلات الطيران في مطار دبي من جديد بعد هطول أمطار غزيرة    "الفنون التشكيلية" يفتتح معرض "بنت مصرية" ل نادية قنديل بمتحف أحمد شوقى.. صور    كيف نحتفل بشم النسيم 2024؟    الفندق المسكون يكشف عن أول ألغازه في «البيت بيتي 2»    مؤتمر «مجمع اللغة العربية» يوصي بإضافة منهج ل أساسيات الذكاء الاصطناعي (تفاصيل)    تفاصيل موقف غريب جمع بين محمد رشدي وبليغ حمدي في بيروت وما علاقته ب «العندليب»؟    «اللهم يسر لي كل عسير واختر لي فإني لا أحسن التدبير».. أجمل دعاء يوم الجمعة    إطلاق المرحلة الثانية من مسابقة النوابغ للقرآن الكريم في جنوب سيناء 25 يوليو    تمديد استقبال تحويلات مبادرة "سيارات المصريين بالخارج".. المهندس خالد سعد يكشف التفاصيل    رئيس الوزراء يعقد اجتماعًا مع ممثلي أبرز 15 شركة كورية جنوبية تعمل في مصر    عاجل.. هيئة الرقابة المالية تقرر مد مدة تقديم القوائم المالية حتى نهاية مايو المقبل    الأوقاف تعلن افتتاح 19 مسجدًا.. غدًا الجمعة    محافظ شمال سيناء: رفح الجديدة صممت لاستيعاب 75 ألف نسمة «من الجيل الرابع» (تفاصيل)    الداخلية تضبط 12 ألف قضية تسول في شهر    أردوغان يعلق على التظاهرات الطلابية بالجامعات الأمريكية لدعم غزة    أول رد من الكرملين على اتهام أمريكي باستخدام «أسلحة كيميائية» في أوكرانيا    وزير البترول ينعى رئيس لجنة الطاقة بمجلس الشيوخ    ميقاتي يحذر من تحول لبنان لبلد عبور من سوريا إلى أوروبا    منحة السفارة اليابانية MEXT لعام 2025 لطلاب الجامعات.. تعرف على التفاصيل    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي الثاني للطب الطبيعي والتأهيلي وعلاج الروماتيزم    كاف يحدد موعد مباراتي مصر أمام بوركينا فاسو وغينيا في تصفيات كأس العالم    انتبه.. 5 أشخاص لا يجوز إعطاؤهم من زكاة المال| تعرف عليهم    فقدت ابنها بسبب لقاح أسترازينيكا.. أم ملكوم تروي تجربتها مع اللقاح    صحة الإسكندرية: فحص 1540 مريضًا في قافلة "حياة كريمة" ببرج العرب    الرعاية الصحية تطلق حملة توعوية حول ضعف عضلة القلب فى 13 محافظة    جرثومة المعدة.. إليك أفضل الطرق الطبيعية والفعالة للعلاج    شراكة استراتيجية بين "كونتكت وأوراكل" لتعزيز نجاح الأعمال وتقديم خدمات متميزة للعملاء    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    الإمارات: مهرجان الشارقة القرائي للطفل يطلق مدينة للروبوتات    ارتفاع حصيلة قتلى انهيار جزء من طريق سريع في الصين إلى 48 شخصا    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    إعلامي: الخطيب طلب من «بيبو» تغليظ عقوبة أفشة لإعادة الانضباط في الأهلي    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة السادسة: انتصار النّبوءة
نشر في الوطن يوم 05 - 08 - 2021

يجيب عليّ قنديل بنفسه مستعيرًا عبارة "هاملت": "أي زمنٍ فوضويّ معّوج". في مستهل رسالة لأصدقائه "شموس البقاء في ليل الفناء": "محمّد، الشّهاوي، سماحة، نفيسة، الشاذليّ، دومة، والقادمون"، 6 يناير 74:
"أعلنت عن قدومها الأيام العصيبة، وجاء الذّعر الذي لم يكن لي عهد به، في الأمس اختُطف من الشّارع واحدٌ من أقرب أصدقائي، بلا مبرّر صغير أو كبير، ولأول مرّة يتعذّر عليّ الاتصال ببيته، وأصبحت يفصلني عن أخيه، زميلي، شلّال من العسس والمخبرين، والبلاء الجديد أن الجميع أشاروا عليّ بالاختفاء، وأدركت أن انقلاب الأمور لا يفرق، وأنها خديعة تلك الكلمة الجوفاء: "مبرّر أو سبب"، وأنها خديعة كبرى: "براءة"، وكما يحدث كلّ شيء- رغمًا عنّي- أحيا الآن حياة المناضلين، لا أوردها الله عليكم، تلك التي لم تسقني لها قدماي ولا يداي، أتلفّت ورائي، أعد الأمتار، أخبّئ الكتب، وصدّقوني أنّني أرى عدم الأمان، وأن اليد الباطشة ستفتح بيوتًا كثيرة، وتخطف رجالاً لا عدد لهم، بل هذا حدث.
دعوني أقول إن الذي يتفرّج كثيرًا على ألعاب الحواة، لابد أن يأتي عليه الدور، ويصبح من أركان اللّعبة، وعلى أيٍّ، نحن في انتظار المخبوء في حقيبة الله".
خطاب للأصدقاء في "كفر الشّيخ"
والمخبوء في الحقيبة كان موته هو ذاته بعد عام ونصف العام من هذه الرسالة، لكن السّياسة لن تتركه لحاله أيضًا، حتى بعد أن يفارق الحياة.
في أغسطس 1975، ينظم المركز الثّقافي السّوفييتّي، الذي استضاف "عليّا" الشّاعر قبل شهر واحد، احتفاليّة كبرى لتأبينه. نفس المسرح الأنيق الذي ردّد آخر أصدائه الحيّة. لكن المنصّة ستكون شاغرة من الشّاعر الذي ترك مكانه للمحاضرين: د. عبد المنعم تلّيمة، ود. جابر عصفور، والشّاعر محمد عفيفي مطر". فهل كانت الاحتفاليّة هي آخر الفعاليّات التي يستضيفها مسرح "تشايكوفسكي" بالقاهرة؟
بطاقة الدعوة
سيغلق "السّادات"، الذي لم يكره في حياته أناسًا بقدر السّوفييت، على أيّة حال المركز الثقافيّ السوفييتيّ بعد أسابيع قليلة، ويقطع العلاقات الدبلوماسيّة. لقد ولّت مصر الرسميّة وجهها شطر الولايات المتحدّة، ولم يعد "السّادات" يريد طيّ صفحة العلاقات الممتدة مع الروس منذ العدوان الثّلاثي، بل حرقها بالكامل.
في هذا المركز- الذي استضاف كثيرًا ثنائي اليسار الشّهير "عدلي فخري وسمير عبد الباقي"، المغنّي والشّاعر- نوقشت في ندوات شهريّة أعمال الأدباء السّوفييت من مختلف الجمهوريّات، والأدباء المصريّين من مختلف الأجيال، كما احتفل المركز بذكرى تولستوي، وجوركي، وبوشكين، والطّهطاويّ، والنّديم، وطه حسين، والسّياب، ومحمد مندور، والفارابيّ، وعرضت به من أفلام السّينما الاشتراكيّة على امتداد خمسين عامًا، فضلاً عن أفلام مختارة لمخرجين مصريّين مثل صلاح أبو سيف، وشادي عبد السّلام، وتوفيق صالح، ويوسف شاهين، وأفلام تسجيليّة لسعد نديم، وصلاح التهاميّ، وأحمد راشد، وسعيد مرزوق، وخيري بشارة، وعطيّات الأبنودي، وأفلام تسجيليّة سوفييتيّة لمخرجين مثل أيزنشتين وبورفكين وميخائيل روم ورومان كارمن.
"عليّ" طالب "الطب": اليد الباطشة ستفتح بيوتًا كثيرة.. وتخطف رجالاً لا عدد لهم
بنظرة عامة إلى نشاط المركز خلال عشرين عامًا، "56- 76"، سنرى "بناء ضخمًا مجهّزًا خصيصًا لكي يكون مسرحًا ودار سينما، يستطيع أن يضم بين جوانبه أكبر عدد من الرّواد، سنرى المكتبة الثريّة التي تحوي عددًا هائلا من الكتب في كل فروع الفن والأدب والمعرفة، والمكتبة الفيلميّة التي تحوي تراث الأفلام الكلاسيكيّة والأفلام الحديثة"، والأهم من هذا كله، كما يقول المخرج الرّاحل صلاح أبو سيف، أحد روّاد المكان في ذلك الزّمن، هو "تلك الرّوح السّمحة التي تسيطر على القائمين على شئونه، سواء من السّوفييت أو المصريّين، وتجعلهم دائمًا في خدمة زوّار المركز، والدّأب على مزج الثّقافة المصريّة والسّوفييتيّة، وليس أدل على ذلك من هذا الإقبال المذهل الذي لمسته بنفسي أثناء تردّدي عليه".
كل ذلك بالتأكيد لم يكن "السّادات" يريد أن يراه، واستمر إغلاق المركز لمدة عشر سنوات، فرغ خلالها المبني الذي كان محتشدًا بالزّوار والنّشاط في منطقة الدقي إلا من الحارس، وتلفت جميع محتويات المكتبة الضخمة وشرائط الأفلام والأرشيف السمعيّ- البصريّ، وعندما قرر "حسني مبارك" إعادة العلاقات، وفتح المركز أبوابه من جديد، في الثمانينات، وجد مسئولوه الجدد زمنًا كاملاً متآكلاً تحت التراب، لقد ذهبت المحتويات الفيلميّة والكتب الماركسيّة التالفة على مدار عشر سنوات إلى المحرقة، ومنها التسجيل الوحيد لعليّ قنديل، الشّاب الذي وقف في المكان نفسه، قبل عشر سنوات، لتخرج "العصافير الطّليقة" لآخر مرة من حنجرته:
"داخلٌ في المدّ أغسلُ حيرتي وأراقصُ الشّمسَ التي تهتز فوق الأبيضِ المتوسّطِ، الشّمسَ التي فقدت ضفيرة شَعْرها، ومسحتُ خدّيْها وقلتُ: هي العصافيرُ الطّليقةُ حيرتي، قلتُ: السّفينةُ والمدينةُ، راقصي يا شمسُ قلبي، واخبريني أين يختبئُ الجوادَ وعلّميني، إنّني أهوى اشتعالَ النّار ألهو بالنّيازك".
مات "عليّ" ولم يخلّف سوى بعض أوراق وكتب مكدّسة في الأركان، تمامًا مثلما توقّع في الخامسة عشرة من عمره. ستبقى هذه الأوراق، في نظر البعض، محاولات شاعر تطلّ من عينيه جمرة التشكّل، محاولات، حتى لو كانت الكتابة عظيمة الموهبة، لقد حال الموت المبكّر دون أن تصير بناءً مكتملاً واضح المعالم.
عبد المنعم رمضان: "لم يسمح له الموت بأن يطلعنا على مصير موهبته، ديوان عليّ قنديل الوحيد المسمّى "كائنات عليّ قنديل الطالعة" لا يصلح الآن إلا للبكاء عليه، مثله مثل أيّ ديوان أوّل لأيّ شاعر جديد لم يتخلص بعد من آثار أسلافه، عاطفتنا الآن تشدّنا إلى الرغبة في استعادته، وهذه الرّغبة محض "نوستالجيا". عليّ قنديل مات قبل أن يصبح نفسه، مات في الوقت الذي كان فيه قلبه مصبوغًا مثل قلوبنا جميعًا بألوان الآخرين، لا يمكننا أن نتحدّث عنه وعن شعره باعتباره شاعرًا اكتمل وديوانًا اكتمل. لقد كانت بداية لا يصحّ أن نبالغ ونحسبها أكثر من بداية".. "الكتابة".
رفعت سلّام: "لم يتّسع الوقت لعليّ قنديل، ابن قريّة الخادميّة، إلا ليقيم افتتاحيّة شعره ومسيرته الإبداعيّة اللّاحقة. افتتاحيّة تكشف عن المرتكزات المؤسّسة، والتوجّهات المُستهدفة، والطّاقات الكامنة فيما قبل التحقّق الذي لم يتحقّق. فإذا كان رامبو أعلن مبكرًا: "لا جدوى أن نبلي السراويل على دكك الدّراسة، اللّعنة"، فقد استهلك عليّ قنديل وقته في محاضرات كليّة الطبّ، دون أن يتبقى للشّعر- والقراءة عامة- إلا فائض الوقت، فلم يملك سوى تقديم افتتاحيّة لعمل أوركستراليّ واعد، لم يأت".. "الدّوحة".
لكن هذه الأوراق القليلة، برغم ذلك، حفظت له مكانته الدّائمة داخل الطليعة وخارجها، كما حفظت له وجوده المركزيّ في المتن والهامش على حدّ سواء. هذه الأوراق التي تنبئ بمستقبل باهر، ولم يقيّض لصاحبها فرصة تصحيح ما بها من أخطاء، جعلت منه "أيقونة شعر السّبعينات"- عنوان لأمجد ريّان- ولم يمت عليّ قنديل فعلاً إلا عندما صار أيقونة الجيل.
كلّ الكتابات الباقية عن "عليّ" الشّاعر تأسّست على هذه الأوراق القليلة، بينما اختُصر "عليّ" الإنسان في لحظة الموت بالذّات.
إن "عليًّا" ليس أسطورة، لقد تجاوزه كثيرون أفلتوا من الموت. ليس ممكنًا، بالتأكيد، أن تقود الآخرين حتى في موتك. الغريب أن "عليًّا" كان الوحيد الذي يعرف هذه الحقيقة. لقد أكدت له دراسة الطبّ أن ذلك مستحيلٌ على الأقل. وكان يدفع بكل واحد منهم إلى أن يكون فتحًا شعريًّا بمفرده، لكنهم هم الذين وضعوه دائمًا في منزلة الوَهَج: "الشّهاب المؤرّق"- عنوان لحلمي سالم، "الشّهاب الذي خطف الأبصار وانخطف"- حسن طلب، "ومضة هاربة إلى المستحيل"- رفعت سلّام. بالنّسبة إليهم هو شعلة الجيل التي تعمّدت في مجمرة السّبعينات، حيث الذّيول التي تَرَأّسَت، بمفردات حسن طلب، وحيث سوّدت الهدنة الهدنتان الثلاث، جميع صنوف التّهادن أحلامهم جميعًا، وأصبح "النّصر محض افتراض"، بمفرداته أيضًا، وحين أصبح الأمل مستحيلاً، بل ومثيرًا للسّخرية: "إذا الدّيك باض".. قصيدة "زبرجدة إلى أمل دنقل". أليست السّخرية السّوداء نفسها هي التي اختطفت واحدًا منهم، هو الأكثر وداعةً والأكثر وعدًا؟ لقد وضع قدمه الأولي على حافّة النّور، وغاب قبل أن تزل في مستنقع التّهاويم واللّغة الغامضة.
ومثل شعره المليء باختزالات رهيبة، اختزل عليّ قنديل هذه الحركة الشّعريّة بكاملها في بضع سنوات، كان هو البداية والنّهاية، وكل هذا التراث الممتدّ على مدار 40 عامًا محاولة للاتّحاد مع الوَهَج الأقدس، الوَهَج الذي يؤرّقهم على الدوام، البراءة النقيّة الخالصة بلا أيّة شائبة، وإذ أكد بعض فرسان هذه الحركة على أن تجربة عليّ قنديل الشّعريّة كانت مفارقةً وطموحة وجذريّة لكنّها لم تكتمل، فإن الحركة بكاملها أيضًا لم تعرف طريقها إلى الاكتمال، بعد أن ظلّت مشوبةً بالقلق المستمر، والرغبة الدائمة في التجريب، "وفي سياق هذه الفوضي، وإيغال الشّعراء في التجريب، واللّهفة إلى البكارة، أهملوا بعض الظواهر الجماليّة، وهي الظواهر التي قدّستها الكلاسيكيّة، وحافظت عليها الرومانسيّة، واحترمتها الواقعيّة، وهو ما أرهق المتلقي العام والخاص على السّواء"- د. محمد عبد المطلب: شعراء السّبعينات وفوضاهم الخلّاقة- والنتيجة أن سهام الشّعر طاشت في كل اتجاه، وغابت الكتابة كليًّا عن الناس، هؤلاء الذين اختار "عليّ" أن يقيم معهم، وأن يغيبَ صامتًا كما يغيبون.
"طلب": كان به شيء يشبه النبوءة.. وقادرًا على ألا يكون صدى ل"أدونيس"
لكن هذه الفوضى التي أرهقت القارئ العام والخاص، وأهملت ظواهر جماليّة بالكامل، كيف تكون خلّاقة؟ لعل حسن طلب، الملتزم والمجرّب، الفيلسوف اللّاعب بالألفاظ الحوشيّة والنظريّات، صاحب المهارة الفائقة والصنعة الدقيقة، الأجدر بالإجابة على السؤال: "ليست كل فوضى خلّاقة، هناك فوضى لا تتجاوز كونها فوضى. يجب أن يكون العمل الفنيّ متماسكًا، ليس بقانون معين، بل بقانون كل قصيدة. الشّاعر لا يجب أن يخضع للفوضي، بل هو منظّمها، هو الذي يفرض عليها قانونه الخاصّ. سيظل الهدم عملاً سلبيًّا ما لم يكن لديك البديل الذي يجعلك قادرًا على أن تبني مكان ما هدمت، فإذا أنت هدمت واكتفيت فما أسهل الهدم".
تعلّم "حسن" درس الرّاحل الكبير إدوار الخرّاط: "اللّفظة لا تموت، هناك شاعر ما يأتي ليبعثها من جديد، مثلما قال المسيح: انهض أليعازر". كما استوعب الدّرس العظيم للدكتور شكري عيّاد: "الناس ذهبوا إلى تراثهم وأتوا بصيدهم، فلتقطع هذه الرّحلة أنت أيضًا، فقد تجد شيئًا آخر أهملوه وراءهم، لكن حذار أن تنسى هناك نفسك، يجب أن تحتفظ في جيبك بتذكرة العودة". يستعير "طلب" بيتًا لشاعر قديم خامل الذّكر هو محمد بن أحمد الرّقي، يرى أنه واضح الدّلالة في هذا السّياق: "أرى ألفَ بانٍ لا يقومُ لهادمٍ.. فكيف ببانٍ خلفَه ألفُ هادمِ".
ويقول "حسن": "جماليًّا، لن يبرّر شعرك أنك قد هدمت، إن محاولة البناء هي الأصعب، لأن البديل هو أن تتحكّم القصيدة بالشّاعر فيبدأ في التداعي، وسرعان ما يتحوّل إلى ثرثار، إن الحركات الطليعيّة توجد لكي تهدم ما قبلها، فإذا لم تستطع أن تبني ماتت. لقد قال مارينيتي: اهدموا المتاحف، وقال: نحن لم نولد من أرحام النساء، ولكن ولدنا من زيت المحرّكات، فماذا تبقي من كل ذلك؟ السّورياليّة فقط هي التي بقيت، لأنها استندت إلى أن العقل المنطقيّ، الذي أسلم الحضارة الأوروبيّة إلى الدّمار، غير العقل الباطن الذي يأتي من الأحلام، وهي منبع الفنّ، وجزء حيّ في تجربة الإنسان".
يرى "حسن" أن عليّ قنديل كان بنّاءً عظيمًا: "قصيدته (القاهرة) درس في كيفية توظيف التفاصيل، لا عن طريق الهدم والتشظّي، بل بالبناء والوعي التّام بما يفعل". كما يراه، بكتابته لقصيدة النثر في هذا الوقت المبكّر، مستشرفًا يفتح طريقًا أكبر للكتابة الشّعريّة: "كنت مثلاً ممن يراهنون على أن قصيدة التفعيلة ما زالت تملك إمكانات لم يستغلّها الرّواد أستطيع أن أحاول فيها، أما هو فقد كان يراهن على فتح أفق أوسع، لذلك كان خياله النقديّ أرحب. كان به شيء يشبه النبوءة. وكان قادرًا أيضًا على ألا يكون مجرّد صدى لتجربة مجلّة "شعر"، وهي النموذج الجاهز لقصيدة النّثر وقتها، خلافًا لزملاء له كتبوا هذه القصيدة، وأصبحوا صدى لمقولات أدونيس، أكبر صانع أتباع في الشّعر العربيّ الحديث".
أما جمال القصّاص فيؤكد أن بذرة الطليعيّة لدي عليّ قنديل هي ابنة الفطرة بالأساس: "كان يتعامل مع الأشياء في بداهتها الأولى، يجنّبها التّكرار، وكانت له نظرته الخاصّة، على مستوى السّلوك العاديّ أو السّلوك الأدبيّ، لقد حاول أن يعزّز استثنائيته وتفرده، دون صدام، دون أن يجرح، وكان دائمًا في حالة تعايش، مهمومًا بالبكارة، باحثًا عنها في كل مكان، وفي التراث لدى الشعراء الصعاليك، وهو يرى أن مفهوم الشّعر العذريّ خطأ، فالبكارة قد لا تفضي إلى العذريّة، وهما ليسا مرتبطين، البكارة ابنة البداهة والفطرية: فطريّة الحياة. و"عليّ" كان يتمتع بنوع من البصيرة الكفئة القادرة على أن تصنع التوازن الحيويّ بين العقل والعاطفة، الرّوح والجسد، اللّغة في عرامتها الكلاسيكيّة، واللّغة في تشظّيها وتفجّرها".
"القصّاص": كان يوزّع نظرته بعدالة على الجميع حتى لو هناك نساء بين الجالسين
يضع جمال القصّاص صديقه القديم في منزلة رفيعة داخل خريطة الشّعر المصريّ كلّه: "أعتقد أنه لو امتد به العمر كان سيشكّل نقلة أكثر اتساعًا وعمقًا في كامل الشّعرية المصريّة. لا فقط في جيله الشعريّ. كان لديه أفق نقديّ ورؤية للشّعر. رؤية ليست معلّقة في الفراغ، بل معجونة بالنصّ الذي يكتبه، لا مسافة لديه بين النظريّ والتطبيقيّ، ولم يكن يستعجل الهدم، إنك لو استعجلت الهدم ستظل تهدم. أما هو فقد كان يمتلك وعي البناء. لذا كان مغامرته الشّعرية محسوبة".
مطر وجمال وحسن
كان "عليّ" يتمتّع أيضًا بهذا النّوع من "الخجل المشمس"- التعبير ل"جمال"- خجل ليس منكفئًا على ذاته، بل يضيء بشمسه الخاصّة: "عندما كنا نجلس في جماعة، لم يكن يركّز نظره على شخص معيّن، كان يوزّع نظره على الجميع حتى لو كان هناك نساء بين الجالسين، كأن لديه نوع من عدالة النّظرة، وهذا أيضًا نابع من فطريّته". "جمال" يعرف جيدًا صديقه المقرّب، ابن بيئته نفسها، كان يراه كادحًا منكبًّا على التحصيل، ناسيًا طعامه بالسّاعات، يتذكر أنه كان مدخّنًا معتدلاً، فهو ابن الاعتدال في كلّ شيء ما عدا الكتابة والكدح في الحياة، ويتعجّب كيف تمكّن من صنع هذه التوازنات والتعايش معها دون صدام. وهو إذ يتذكّر "عليّا" ينظر في البعيد، غارقًا في ابتسامته المعتادة السّمحة وسط همهمات الروّاد في المقهي. تذكّرني الابتسامة الهادئة، وتلك النظرة البعيدة، بقصيدته "الأشجار"- ديوان "خصام الوردة"- وهي التي أهداها "القصّاص" ل"عليّ" في ذكراه الثامنة: "ترى/ ربما يعبر الآن/ ربما يُسْلِمه المساءُ لعبقٍ ما/ ربما يقبعُ في المقهى المجاور/ يشاكسُ بنتًا/ تبثّه حكاياها الأليمة/ ربما يكتبُ عن حلمي سالم/ رؤيةً جديدةً/ لكنه سوف يمنحنا عُرينا الطفوليّ/ ويخجل/ سوف يضحكُ منّا كثيرًا/ ويصرخنا:/ انتموا لأوجاعكم".
ويقول "جمال": "إذا أردتُ أن أراه الآن، فإنني أراه من زاوية الإشراق العقلي، الذي هو ابن هذه التوازنات بالأساس، في أشعاره هناك أقصى ما هو عقليّ، في أقصى ما هو عاطفيّ، في أقصى ما هو رمزيّ، في أقصى ما هو سياسيّ واجتماعيّ. هناك تناصّات أو تماهيات صغيرة مبثوثة بشفافية مع علوم كثيرة كالفلسفة والتاريخ وعلم النّفس، ومع الفن التشكيليّ والسّينما والمسرح. إن أصعب الأشياء هو العمل مع شعريّة الأفكار، لأنك ستكون أمام نوع من المواءمة الخلّاقة بين أقصى التجريديّ وأقصى الحسّيّ. كان "عليّ" يفعل كلّ ذلك نتيجة معرفة، ونتيجة بصيرة، كان يريد أن يكون لديه شيء خاص. رؤية فريدة في الشعر. وفي تكنيك الكتابة. وكان يصنع ماكيتّات لقصائده، وهذا أيضًا ابن الإشراق. إنه يستطيع الكتابة بشكل متدفّق وفوريّ، لكن الإشراق يحتاج نوعًا من التنظيم".
تخطيط لقصيدة "القاهرة"
لقد وضع "عليّ" شعريّة الجيل كله على محكّ السؤال، ومن هنا تأتي طليعيّة الشاعر. وهي تكمن، بحسب "جمال"، في أنه كان نواة الحساسية الجديدة في شعر السّبعينات: "أعتقد أن "عليّا" كان بصدّد أن يكون شاعرًا مسرحيًّا، هناك دراما ما في قصائده، هناك شخوص غير مرئية تحتاج إلى نسق دراميّ لكي تصير واضحة، كأنه يشيّد معمارًا فوق مسطّح ورقيّ. وينميه جماليًا، هذا أيضًا ابن الرؤية الدّرامية، ومنها يأتي الطابع الملحميّ في النصّ، وهو يستند إلى نسغ أسطوريّ نراه في إحالاته إلى التراث القديم. هذه البذرة تطوّرت لدى شعراء السّبعينات، لكن ليس بنكهة عليّ قنديل".
كان هناك صخب، لكن ليس على السطح، وحتى المباشرة في شعره تأتي من أسفل، من قلب النّص نفسه، وهذا يقودنا إلى فكرة الحرية: "الحريّة هي وثيقة الشّاعر ووثيقة الوجدان العام، لكن من الممكن أن تصنع من داخل حريّتك قيودك، من أجل أن تصون هذه الحريّة الخاصّة، إن فعل الصّدق ليس هو تمثيل الواقع، بل هو مرآة تعكس شخصيّة الذّات الشّاعرة وعلاقتها بالواقع، وإلى أين تريد هذه الكتابة الشعرية أن تذهب. التساؤل ابن الدهشة وابن الغرابة، هو أيضًا ابن الشك، لكن الشك عند علىّ قنديل ليس عدميًّا، بل هو ابن يقين راسخ بأن الأشياء من الممكن أن تكون أكثر جمالاً، وأن العالم من الممكن أن يكون أكثر عدلاً، وأن في الإمكان بالفعل أبدع مما كان".
هل بمقدورنا الآن أن نبتعد عن هذه التفاصيل ونحلّق فوقها عاليًا لنلقي عليها نظرة الطّائر؟ الأمر يستحق المحاولة على أيّة حال: هناك في زمن السّبعينات. منتصف العقد تمامًا. النقطة التي ينحرف عندها المسار، وتبدأ التحوّلات الجذريّة. الوقت الذي تتدافع فيه الأسئلة الجارحة، أسئلة المصير. في مدينة القاهرة التي ستودّع عمّا قليل ماضيها المهيب المثقل بالخبرة والتناسق، إلى حاضر ترتدي فيه ثيابها البازخة الفجّة، وتغرق في مستنقعات التّفاهة والضّجيج، تتخلى عن أخلاقها البرجوازيّة إلى أخلاق الانحطاط الرسميّ الجديدة. في غرفة صغيرة بمدينة الطلبة، الغرفة التي بدأت منها ثورة الكتابة الجديدة، تتجسّد حيرة الشّاعر الحديث وصراعه الذي لا يتوقّف، مع الماضي الثّقيل المبجّل، ومع الحاضر الرّاكد ذي الكثافة الخانقة، ومع الذّات التي يجب أن تتفجّر في النهاية. ورغم رقته الواضحة، فإنّ لديه القدرة على القتال في جميع الاتجاهات، بحثًا عن حقيقة الشّعر، ليمنحها وجودًا بمفردها، وجودًا مستقلاً، وفي الآن نفسه شاهدًا على الزّمن والحوادث.
في أوراقه يسجّل "عليّ" هذه العبارات: "الاختيار ومسئوليّة كتابة ما يدلان على حريّة. ولكن هذه الحريّة ليس لها الحدود نفسها في مختلف لحظات التاريخ. ولم يعط للكاتب أن يختار كتابته في مستودع لا زمنيّ للأشكال الأدبيّة. فتحت ضغوط التاريخ والتراث تتوطد الكتابات الممكنة لكاتب ما. هناك تاريخ للكتابة. ولكن هذا التاريخ مزدوج: ففي اللّحظة نفسها التي يقترح فيها التاريخ العام أو يملي إشكاليّة جديدة للّسان الأدبيّ، تبقى الكتابة باستمرار مليئة بذكرى استعمالاتها السّابقة، لأن اللّسان ليس أبدًا بريئًا: فالكلمات لها ذاكرة ثانية تمتد بشكل سريّ إلى قلب الدّلالات الجديدة. الكتابة بالضبط هي هذه التسوية بين الحريّة والذكرى. هي هذه الحريّة المتذكرة التي ليست حرية إلا في حركة الاختيار، ولكنّها ليست كذلك في ديمومتها. أستطيع اليوم أن أختار لنفسي هذه الكتابة أو تلك، وأن أدّعي لنفسي الجدّة أو التراث، ولكنني لا أستطيع إذ ذاك أن أنمو في ديمومة دون أن أصبح أسير كلمات الناس، أو أسير كلماتي الشخصيّة. إن الكتابة كحريّة ليست إلا لحظة، ولكن هذه اللّحظة هي من أكثر لحظات التاريخ وضوحًا، لأن التاريخ أولاً وقبل كلّ شيء اختيار، وحدود هذا الاختيار".
وثيقة المستقبل: "لا القاهرة تبقى قاهرة/ ولا الدلتا دلتا/ ولا الشاعر مسجونًا في لسانه"
والقدرة على الاختيار تتأسس في المقام الأوّل على الشّك في كلّ شيء: "في انتظام اللّيل والنّهار، في علم الحساب والمنطق، في الميزان، في المرأة الحبلى، في المجهول، في المقاهي، في الفاكهة ورائحة الشّواء، في الحديد الصّلب والمطاوع، في ملوحة البحار وجمال نهر النّيل، وفي القطارات التي تأتي ولا تأتي، في حساب السنين، في اليقين".. قصيدة "وردة الشّك".
والشّاعر الحقّ قادر على اجتراح المستحيل، فقط لو امتلك هذا العقل الطفل الذي يحوّل كلّ شيء إلى سؤال. وسرعان ما يصبح العقل جبّارًا مع الزمن، ناضجًا بوهج الأسئلة، ولا إجابات. وهذا العقل الجبّار لا يبحث أبدًا عن إجابات، لكنه لا يعود مندهشًا كما كان. يتحرّق من أجل الوصول إلى براءته القديمة. وهو مستعدٌ دائمًا للتضحية بكل مكتسباته على مذبح البكارة. يود لو يعود إلى بدائيّة الكائن. عندما كان كلّ شيء واضحًا: القوّة والفكر والغرائز. تلك الطّاقة الإلهيّة التي لا يستطيع العقل، مهما حاول، أن يصنع مثلها. إنها منحة من زمن الأساطير. وعلى الشّاعر الحقّ أن يظلّ منتبهًا على الدوام، مستعدًّا لتحمّل المسئوليّة، وقادرًا على أن يدفع الثّمن.
وكانت التضحية الأولى: بمستقبله. والثانية: بحياته. ولو كنا قادرين على أن نمنحه ألف حياة أخرى لما اختار سوى حياته نفسها، بكل أبعادها الروحيّة والماديّة، لكنه قد يتدخل حينها لإصلاح بعض الأمور، خشية اندلاع الحرائق- مثلما كان يفعل في حياته الأولى- وهو لن يُنزل خاله الميّت من منصّة الشّهادة لكي يحظى بمزيد من الرّعاية، كما لن يستعيد طفلته الشّقراء الجميلة من الحلم إلى الواقع، وقد يعد بمزيد من العطاء، فيمنح الأب هدوءًا، والأخ الكثير من النّزق، والأمّ حنانًا أكبر من السّابق، والموتى مزيدًا من الحضور. كما أن في جيبه المزيد من القصائد، وهو ما زال قادرًا على الإدهاش، يحوي بداخله عالمًا كاملاً من الأضداد: الهدوء والثورة، الحكمة والمغامرة، الانفعال والبسمة الشاحبة، المصادفة والاغتيال. وهكذا كان يجب أن يموت علىّ قنديل ليبقى. لأن التاريخ- كما سجّل هو نفسه- "اختيار". أما سؤال: "ماذا لو عاش؟" فهو لم يعد ممكنًا- بل لا لزوم له- إلا في حدود هذا الاختيار.
مسوّدة "كائنات عليّ قنديل الطالعة"
إن كلّ قصيدة وثيقة بحد ذاتها، وثيقة للملأ، وهو يتعامل مع الشّعر بتلك الجديّة البالغة. ومثلما اعتاد أن يوثّق كلّ شيء في حياته من أجل قارئ مجهول سيأتي بعد 46 عامًا، هو من يكتب الآن هذه السّطور، كان حريصًا على وثائقه المعلنة- قصائده- بالدّقة نفسها. بالنظرة المعتادة إلى عمق الأشياء. إذ يجب أن تكون الوثيقة بالغة الوضوح. لا تشبه إلا نفسها. أيّ زيف فيها يعرّضها للإلغاء. وثيقة الموت: "والذي تبكيه جرحٌ دون دم". وثيقة الحريّة: "إن الذي أعنيه قادمٌ لا ريب". وثيقة الوهج: "أنا النّار والشّعر لحمي". وثيقة الأرض: "ماء الوضوء المدنّس بالجوع". وثيقة الحلم: "وأعود أصبح كعكة مغموسة في القلب يطعمني الصّغار". وثيقة الخيانة: "ساجدٌ من أوّل وردة قامت وصمتك طعنتان". وثيقة الوعد: "وفيما بين اتجاه العزق واتجاه الرِّي شاعر لم يأت بعد". وثيقة العدالة: "اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل". وثيقة المستقبل: "لا القاهرة تبقى قاهرة/ ولا الدلتا دلتا/ ولا الشاعر مسجونًا في لسانه".
ولم يكن وراء هذا الولع بالتوثيق في الشعر والحياة سوى الرّغبة الحارقة في البقاء، والانتصار على الزّمن، وترقّب الانخطافة الوشيكة المفاجئة، والتي كانت هي الأخرى وثيقة تشهرها الفرق المتناحرة جميعًا على كلّ الجبهات.
ترك عليّ قنديل الكثير جدًا من الأوراق. أوراق ليس لها نهاية، أكثر من حياته نفسها. إن خلف هذه الشرارة نهرٌ يتدفّق من الكتابات، في كلّ شيء، وكلّها يؤمن بدور الفن في حياة البشر، ويضع الإنسان صوبه على الدوام، انطلاقًا من فهم ماركسيّ واضح ومؤكد وحقيقيّ، حتى لو لم ينتبه له الشاعر صغير السّن، واسع الرؤية. كان "عليّ" إذن ماركسيًّا أكثر من الماركسيين.
إن مرجعيات الحركة الشّعريّة الجديدة يلخّصها إدوار الخرّاط كالتالي: "هزيمة الآمال الكبيرة، وعقابيل تمزّق الذّات الجماعيّة عقب انحسار هذه الآمال، والتضادّ الجارح بين الشّعارات المجلجلة والتحقيقات المحدودة والمشروطة، واقتحام القيم الاستهلاكيّة، وأزمة الهويّة المصريّة، وازدواجيّة سلّم القيم القائمة على كلّ المستويات"- "شعر الحداثة في مصر"- ويضيف إليها رفعت سلّام: "هجرة الرموز النقديّة إلى خارج الوطن، انحدار المجلّات إلى حدّ الإغلاق واحدة وراء أخرى، استقرار النّقد إلى تيّارات متبلوّرة"- ألف 11"- ويمكن أن نضيف أيضًا: انحسار الرموز الكبرى في الثّقافة، وخلخلة بنية المجتمع بالكامل، وظهور القطط السّمان، وتفكّك اليسار المصريّ، وصعود الإسلام السّياسيّ.
لكن كلّ هذه الظّهورات بدأت وترعرعت وسادت في النصف الثاني من السّبعينات، بعد أن سكتت المدافع إلى الأبد، في الوقت الذي كان عليّ قنديل ميّتًا. فهل كنا جميعًا مخطئين عندما حسبناه على هذه الحركة الشّعريّة لمجرد أنه "أوّل الموت في جيلنا"- بتعبير عبد المنعم رمضان؟
كانت حركة السّبعينات عميقة الأثر في مسيرة الكتابة العربيّة، هؤلاء الشبّان الذين أتوا من بلادٍ بعيدة، حاملين في وجوههم أثرًا من بيوت الطّين، استطاعوا أن يقودوا التحوّل الكبير في الكتابة الشّعريّة المعاصرة، ومثلما ناضلوا طلابًا في صفوف الحركة الوطنيّة، وجنودًا على الجبهة في معركة التحرير، كانوا أيضًا مناضلين في ساحة الشّعر، بعد أن أغلقت المنابر الرسميّة أبوابها في وجوههم، وصار عليهم أن يصنعوا آلة الدّعاية التي تخصهم، عبر الكتابة بأياديهم، والنشر بتقنيّات الماستر، وتشييد البناء النّقديّ والتنظيريّ الجديد فوق أكتافهم، البناء الذي يستوعب ويناقش ويقدّم ويضيء هذه التجارب الجديدة المفارقة للسّائد الرسميّ، الغارق قي التراجعات: أيديولوجيًا وفنيًا.
لكن الخضوع للنظريّة في الشّعر لا يعني بالضرورة أننا على الطريق الصحيح، فالنظريّة عادة صالحة للاستخدام في جميع الأحوال، وهي مطروحة للكافّة من الشّعراء. في الشّعر نحن نصنع الآلهة لنأكلها، لا لكي نتبتّل في محرابها ونسير وفق التّعاليم المقدّسة. في القصيدة لا منطق سوى منطق القصيدة ذاتها، نعم وقطعًا، لكن يبقى الشّاعر دائمًا هو الأصل، فإذا لم يكن موجودًا، أو جاء متنكّرًا في ثياب النظريّة وثياب الأسلاف وثياب المجايلين، فلن يبقى من القصيدة شيء يستحق البقاء. إن "الحداثة لا تستبدل بالأسلوب السّائد الرّسميّ الذي تتمرّد عليه أسلوبًا رسميًّا آخر، لأنها تتنكّر لنفسها لو فعلت، فتتوقّف عن أن تكون حديثة، ولذلك تطرح الحداثة نفسها بوصفها إشكالاً يتأبّى على الحلّ، نظريًّا، ولكنّه يقود إلى إبداع شكليّ وجدليّة خصبة، تطبيقًا. ويتمثل هذا الإشكال في أن الحداثة تصارع إلى الأبد، ولكنها لا تنتصر قطّ، بل إن عليها أن تصارع حتى نفسها، بعد فترة، لكي لا تنتصر".. "الخيال.. الأسلوب.. الحداثة" ت- د. جابر عصفور".
شكّل علي قنديل علامة إرشاديّة واضحة في صحراء القصيدة التي لم تكن غادرت حتى هذا الحين روح القبيلة ومعجمها الرّاسخ المتكلّس، المعجم الذي يضم اللّفظ والمعنى في هيكل واحد يتآكله صدأ القرون والأحداث، هو الذي أطلق الشّرارة الأولى، هذه الكهرباء الجديدة التي صار على الحركة أن تعيد إنتاجها مئات المرّات. هذه اللّغة المشحونة على الدوام بطاقات سرمديّة. هذا الغرق الكامل في الأحلام والرّؤى الصوفيّة للعالم، بل الهذيانيّة في أحيان كثيرة. لم يعد هناك إذن ما هو عصيّ على الكتابة، حتى اليوميّ والسّطحيّ والمعاش والمكرّر: "كليّة الطبّ/ دخان الغليون في الكافيتريا/ أتوبيس 124/ قائمة العطلات والكتب المدرسيّة". لقد لطم عليّ قنديل كبرياء القصيدة ابنة السّياق الرسميّ، وكان على رفاقه أن ينكلّوا باستمرار بها، ساخرين منها في صلصلة جماعيّة متصلة، مشكّلين حلقة من حلقات الزّار الشّعريّة، ملأت الفضاء، وأزاحت مواكب الشّعراء التي تترى، وصارت هي المتن الشّعريّ وقلب المشهد الإبداعيّ على مدار 40 عامًا.
الكثير من تجارب الشّعراء الشّباب في اللّحظة الراهنة تدين بوجودها وبقائها لهذا المسار الكبير الذي حفره السّبعينيّون بأظافرهم في جسد الثّقافة.
إن شهوة الهدم والتّحطيم واليأس من المقدّس وابتلاعه، تلك الشّهوة التي قادت هذا الجيل، منذ أن وضعوا السّلاح وأمسكوا بالقصيدة، ربما كان عليّ قنديل واضع بذرتها الأولى بالأساس. وما يدرينا؟ لعلّه أخذ البناء من "حسن"، والإشراق من "جمال"، والجرأة من "أمجد"، والجنون من "حلمي"، والشجاعة من "ماجد"، مثلما أخذ كلّ منهم حصّته الصغيرة منه. كما أن مقولاته النقديّة وجهده التنظيريّ المبكّر كانا فاتحة المضمار الذي خاضوا جميعًا خلاله من أجل تأكيد رؤاهم وفرضها على العالم. وكونه شهيدًا في مطلع الصّبا جعل منه شاهدًا أيضًا، هو الذي لا يعرف سوى العمل في جماعة، على مغامراتهم المنفردة بعيدًا بعيدًا عن الجبهة، عن كل ما ناضل من أجله ثم غاب فيه بلا رجوع. لقد كان في موته أيضًا وادعًا كما كان في الحياة، وظلت عصافيره الطليقة، وثيقته، معلّقةً في الفضاء.
فعن أيّ شيء نفتّش في دفاتر الموتى؟
أعن مجرّد الاكتشاف؟
أم الرّغبة في المساءلة؟
إن تتبّع حركة المصائر أمر لا يخلو من المتعة والمفاجآت، كونها حكايات مكتوبة بالأنفاس الحيّة والدّم الدّافئ، وأخرجها الموت ذاته إلى الوجود، فلولاه ما عرفنا وفوجئنا وفرحنا وانتابتنا الكآبة مع الأبطال السّابحين في زمن آخر. فإذا كان هذا هو الهدف، فهو ساذج، مؤقت، انتهازيّ، سرعان ما يقوّضه الملل ويقضي عليه. الميّت أكبر من مجرّد حكاية، حتى لو أفرغ فيها ضميره بالكامل: هواجسه العميقة، وأخطاءه الواضحة. أما المساءلة فإن هدفها الأكيد هو إضاءة الحاضر. فهل أصبح ملتبسًا لهذه الدرجة، لكي نقطع الرّحلة إلى الماضي بحثًا عن إجابات؟
إن عليّ قنديل يجيب عن سؤال زمنه. نحن أبناء زمن آخر. فما الذي يدفعنا باتجاهه؟
الشّعر أم الحياة؟
لكن الحياة- حياته- قصيرة للغاية، مثل حيواتنا جميعًا ولو طالت. والشّعر مختزَلٌ يكاد يكون مجرّدًا تمامًا من المادّة، وهذا هو الشّعر الأنقى ذو المقام العالي. والشّاعر الذي يتعثّر على الأرض، ويكون قادرًا في الآن نفسه على أن يقود الطّليعة كلها إلى أفق آخر، هو الشّاعر الذي ينبغي أن يبقى، وأن ننقذه من عثراته القاتلة، وأن ندفعه بعيدًا عن الموت، ليظل بيننا حيًّا بطاقته، بكهربائه التي تدفعنا دومًا إلى تجاوزه، لكي نسير للأمام، باتجاه حلمه المستحيل، حلمنا، وحلم كلّ الشّعراء الذين مرّوا في هذا العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.