صدر مؤخراً تقرير مهم عن جهاز المحاسبات الحكومية الأمريكى Government Accountability Office. والتقرير هو نص شهادة «دافيد واكر» مراقب النفقات الحكومية الأمريكى، أمام الكونجرس حول قضية تمويل الجماعات الإرهابية خارج الولاياتالمتحدة، وسبل تجميد الأرصدة والأصول المالية لهذه الجماعات فى بعض الدول ذات الأهمية الاستراتيجية للولايات المتحدة. كان عنوان التقرير «الأجهزة الحكومية الأمريكية قادرة على تحسين الجهود المبذولة لمكافحة تمويل الإرهاب وتقديم الدعم الفنى فى الخارج». ورغم أن التقرير يعترف بالقصور الشديد فى جهود مكافحة تمويل الجماعات الإرهابية خارج أمريكا، فإنه لم يأتِ بجديد، ولا يعدو أن يكون حلقة فى مسلسل الحرب الأمريكية على الإرهاب الذى بدأ بعد أحداث 11 سبتمبر 2011. وكانت نتائجه -حتى الآن- مخيّبة للآمال، إلى أن نفخ التمدد الإرهابى الخطير فى الشرق الأوسط مجدداً روحاً جديدة فى جهود مكافحة تمويل الإرهاب. علّها تفلح هذه المرة فيما لم تفلح فيه سابقاً. هذه المرة تقترب شرارة الإرهاب من الثوب الأمريكى فى الخليج، وتفرض المنظمات الإرهابية سطوتها قريباً من مناطق النفوذ الأمريكى التقليدية، وتفترش مساحات واسعة من العراقوسوريا أغرتها على إعلان دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، لتكون رأس الحربة فى الجهاد ضد الكفر ومقصد المجاهدين من كل فج عميق! وحتى الآن لا أحد يعرف -لكن لا يمنع أن نخُمّن- لماذا باءت الجهود الأمريكية لتجفيف المنابع المالية للإرهاب بالفشل؟! لماذا تراوحت تلك الجهود بين الحماس والفتور؟! ولماذا تراخت الحرب على الإرهاب حتى صار له جيوش جرارة مجهزة، ومجاهدون من كل جنس ولون، ووجود حى مروّع ودامٍ، «ودويلات موازية» مقتطعة من اللحم الحى لدول ذات سيادة، دويلات ذات اقتصادات موازية تنمو كالطفيليات المتسلقة على العيدان الخضراء للاقتصادات الرسمية. تتعدد أسماؤها من «بوكوحرام» فى نيجيريا إلى «شباب الإسلام» فى درنة و«أنصار الشريعة» و«فجر» فى بنغازى «والموقعين بالدماء» فى شمال مالى، وحركة «شباب المجاهدين» فى الصومال و«القاعدة» فى اليمن و«داعش» فى العراق والشام و«طالبان» فى أفغانستان و«الإخوان» و«أنصار بيت المقدس» فى مصر. ويقترح التقرير الأمريكى، أو شهادة السيد «واكر»، توحيد الجهود الأمريكية وخلق استراتيجية فعّالة لتجفيف منابع الإرهاب الدولى والقضاء على جميع مصادر التمويل التى تزوّد المنظمات الإرهابية بأسباب الحياة والتوسع. وفى مواجهة القصور فى جهود مكافحة تمويل الجماعات الإرهابية، قامت الحكومة الأمريكية بتشكيل مجموعة عمل -تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية- لمكافحة تمويل الإرهاب. ويقدم تقرير «واكر» تعريفاً لمصطلح تمويل الإرهاب قد يفيد فى تقصى مصادر التمويل وتتبع أشكاله. يقول التعريف: «تمويل الإرهاب دعم مالى ذو صور مختلفة يقدّم إلى أفراد أو منظمات تدعم الإرهاب أو تخطط لعمليات إرهابية، وقد يأتى هذا التمويل من مصادر مشروعة كالجمعيات الخيرية مثلاً، أو مصادر أخرى غير مشروعة مثل تجارة البضائع المهربة أو تجارة المخدرات»، وبالطبع تتعرّض هذه المعاملات لعمليات غسل أموال عبر الأجهزة المصرفية الرسمية. وبينما يوصى التقرير بتقديم المساعدات الفنية للدول الصديقة المعرّضة لخطر الإرهاب، لم يحرك الأمريكيون ساكناً ضد خطر الإخوان الإرهابى فى مصر، ولم تصدر عنهم إشارات ترحيب بالتغييرات التى خلعت الإخوان من حكم مصر فى 30 يونيو 2013. ليس هذا فحسب بل يضرب التقرير صفحاً عن مصادر رسمية يعرفها الأمريكيون وترصدها عيونهم الساهرة، فهل تجهل الولاياتالمتحدة دور المصادر القطرية الرسمية وغير الرسمية فى تمويل «داعش والنصرة» فى سورياوالعراق، ودعم «فجر وأنصار الشريعة» فى ليبيا وتوفير منفى آمن للهاربين من قادة الإخوان فى مصر؟! وهل تخفى عليها التسهيلات اللوجيستية والعسكرية التى يوفرها حلفاؤها الأتراك للمنظمات الإرهابية التى تنطلق من أراضيها صوب سورياوالعراق، أو الدعم الذى تقدمه «منظمة الإغاثة» التركية ل«جبهة النصرة» فى سوريا؟! وهل ستتناول التدابير الأمريكية المقترحة فى تقرير «واكر» قطر وتركيا الحليفتين المقربتين للولايات المتحدة؟! ويغض التقرير الطرف عن تحول مهم فى مصادر تمويل الإرهاب، وهو انتقال المنظمات الإرهابية من الاعتماد على مصادر التمويل الخارجية التى تضخها جمعيات خيرية أو رعاة رسميون للإرهاب، أو تبرعات أفراد مخدوعين بفكرة الجهادية الإسلامية إلى الاعتماد على «الاقتصاد السرى الأسود» لتلك المنظمات، ويعنى «الاقتصاد السرى» أى نشاط يتدفق خارج الدورة الرسمية للدخل القومى، ويشمل أنشطة الجريمة المنظّمة، مثل زراعة المخدرات والاتجار بها، وهى نشاط سكتت الولاياتالمتحدة عن تعقبه وتجريمه ليكون مصدراً لتمويل «المجاهدين» الأفغان فى حربهم ضد الاتحاد السوفيتى السابق! ولا تزال «طالبان» تفرض ضريبة على الأفيون تقدر بنسبة 10 بالمائة من قيمة محصول الخشخاش، كما يشمل الاقتصاد الأسود الاستيلاء على ودائع البنوك، وتجريف خزائنها، كما فعلت «داعش» بالبنك المركزى فى الموصل، وكما فعلت «القاعدة» ببنوك حضرموت، كما يشمل السطو على آبار النفط فى سورياوالعراق وليبيا، والاتجار فى البشر والرقيق الأبيض وسبى النساء (الإيزيديات فى شمال العراق) وبيعهن وإرغامهن على الزواج (فتيات «بوكوحرام» النيجيريات) وفرض الجزية على غير المسلمين فى المناطق الخاضعة لسلطانهم (الإيزيديين فى شمال العراق، والمسيحيين فى الموصل). والاختطاف مقابل فدية، والقرصنة وابتزاز السفن فى البحر الأحمر (الصومال) وفرض ضرائب محلية على الإمارات الإسلامية التى «حررها» الإرهاب من قبضة الدول الكافرة، وتصنيع الذخيرة والمفرقعات والأسلحة فى مصانع «بير السلم». حتى الآن يحوم شك كبير حول نجاح الجهود الأمريكية فى تجفيف منابع تمويل الإرهاب، طالما ظلت السياسة الأمريكية تتخبط فى تناقضاتها، وفى رؤيتها المزدوجة للإرهاب ومصادر تمويله وفى تحيّزها الأعمى لحلفاء غارقين حتى ذقونهم فى تمويل الإرهاب، ومنحه قُبلة الحياة.