كان دائماً يفاخر أن قلبه مغلق بقفل عَصْىّ ومفتاح ذلك القفل فى جيبه.. إلا أنه عندما قابلها أول مرة لم ينفتح لها قلبه على مصراعيه فقط، بل جلست وتربعت واستولت على ذلك القلب الذى كان يفاخر باستحالة اقتحامه.. وكما استولت على قلبه من أول نظرة وأول ابتسامة وأول همسة ولقاء استولى هو الآخر على قلبها وكيانها.. وظل حبهما يترعرع طوال قرابة العامين.. لم يكونا يفترقان حتى يسارعا باللقاء.. كان يرى الحب كله فى عينيها الساحرتين.. كان يشعر بالدفء كله وهو بين ذراعيها.. كان ينتابه إحساس عميق صادق بأنه يملك الدنيا بأسرها وهى بين ذراعيه وقبلة تجمعهما يكاد يشعر من فرط عذوبتها أنه يحلق فوق أعلى سحابة.. كان وكان وكان.. بل إنه كان يعشق صوتها الهامس الذى يتفجر بالأنوثة وهى تهمس فى أذنه أو وهى تحادثه عبر الهاتف.. كان وكان وكان يكاد يعشق أنفاسها ويكاد يذوب بين ذراعيها.. وكان وكان وكان يقضى معها الساعات وتمر الساعات وكأنها لحظات وكان يسارع إليها مشتاقاً وفى قلبه لوعة.. كانت وكانت وكان كلاهما يذوب فى الآخر.. كلاهما يعشق الآخر.. كلاهما يتنفس شهيق الآخر، كلاهما وكأنهما روح واحدة فى جسد واحد.. حتى جاء وقت الفراق عندما شاء لهما القدر بالفراق، وكان حتمياً فراقهما وكان لا مفر من الفراق.. وكان وكانت وكان كلاهما ذاقا مرار الفراق ووحشة الفراق ولوعة الفراق.. وباعدت بينهما الأيام والمسافات.. وكان وكانت وكان أن استسلم كلاهما لأقداره وتظاهر كل منهما بالنسيان، بل وإمعاناً فى خداعهما لنفسيهما وتظاهرهما بالنسيان عاش كل منهما حياته كما يرام.. ارتبطت بخطيب وآخر وثالث وعاشر، وفى كل منهم لم تجد محبوبها الذى ملك من قلبها الزمام.. وارتبط صاحبنا بتلك وتلك وتلك حتى ساقته أقداره لحتمية الزواج.. وطوال سنوات زواجه كان خيال محبوبته التى ملكت من قلبه منذ سنوات الزمام، لا يفارق عينيه ولا همسات صوتها تفارق أذنيه، بل ولا طعم قبلتها يفارق شفتيه ولا دفء حضنها يفارق إحساسه ومشاعره.. ظل وظلت فى الخيال وفى أحلام اليقظة وأحلام المنام.. ومرت الأعوام العام بعد العام.. وبعد قرابة العشرة أعوام والحال هو نفس الحال تلاقى صدفة بحبيبة القلب ومليكة الفؤاد.. تلاقت العينان بالعينين وخفق القلب، بل كاد يتوقف من فرحة اللقاء.. وتلامست اليدان واندفع كل منهما بلهفة فراق الأعوام، لتتلاقى الأحضان وتختلط دموع سعادة اللقاء بعد أعوام الفراق.. وهمست فى أذنه أنها ما زالت ولا تزال تحبه وأنه يعيش متربعاً داخل عرش قلبها وهمس فى أذنيها أنها لم تفارق خياله ولا لياليه ولا أحلامه.. ثم افترقا على وعد باللقاء.. ولكنه أفاق.. لا ليست هذه هى محبوبة زمان.. ليست هذه مليكة الفؤاد.. فقد تغيرت العينان الساحرتان.. تبدلت بعينين لم يعد بهما هذا الإشعاع الوهاج.. وكذلك قوامها لم يعد هو ذلك القوام الذى كان وكأنه قد قُدّ من غصن بان.. حتى قسمات وجهها ونضارة وجهها تبدلت ولم تعد حتى ابتسامتها تضىء الأكوان من حولها.. بل حتى أنفاسها وطعم قبلتها.. بل حتى دفء حضنها.. بل حتى همسات صوتها تحولت إلى صوت مبحوح منفر.. لا.. ليست هذه حبيبتى التى عايشتها عامين وعاشت بداخلى كل هذه الأعوام.. ماذا بدّلها؟.. ماذا أحدث كل هذه التغييرات الجذرية عليها؟.. إنها لم تعد هى.. نعم ما زلت أفتقد حبيبتى التى عايشتها عامين ولم تفارقنى كل تلك الأعوام.. وأفاق صاحبنا للحظات وأمسك بصورتها التى كان يحتفظ بها منذ أعوام وتذكر تلك المرأة التى شاهدها منذ أيام، وقال مؤكداً لنفسه.. لا.. لا أظن أن تكون هذه هى تلك.. وبينما هو فى حسرة وقع نظره على صورته منذ أعوام أيام كان مرتبطاً بها ونظر إلى نفسه فى المرآة التى أمامه.. وتبسم فى ذهول وسخرية، لأن هذا الذى يراه فى المرآة ليس هذا هو نفسه الذى يراه فى الصورة التى عمرها أعوام.. ومنذ ذلك اليوم غادرت فتاته أحلامه وخيالاته حتى إنها ظلت تطارده باتصالاتها وهو عازف عن وصالها، لأنه منذ أن رآها وأحسها بعد كل تلك الأعوام وما أحدثته بخارجها وداخلها عجلة الزمان، مات بداخله تجاهها الحب وانتحرت الأشواق، وهكذا هو حال الزمان. ملحوظة: جميع حقوق التأليف والاقتباس محفوظة للكاتب..