حيثما تُذكر مصر يحتل النيل صدارة المشهد، منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، إذ يرصد عالم المصريات سليم حسن فى موسوعته «مصر القديمة» أن أهم الألقاب التى كان يعتز بها الملك المصرى آنذاك «المشرف على حماية النهر»، ويبقى ضبط النهر واحدة من المهام الاستراتيجية للدولة، باعتباره أمناً قومياً، واستدعى ذلك تأكيد مركزية الدولة، وقوتها لتفرض سطوتها على امتداد النهر. وتتزاوج الأرض السمراء «كيمى» مع النهر فتولد مصر، وتنعكس هذه العلاقة على المصريين، فيميلون إلى الاستقرار والتسامح والإيثار، وعرفوا نظام الدولة، والتقسيم الإدارى والوظيفى المحكم. ويعرف المصريون المسيحية، ويبقى النهر فى موقعه الأثير، فيضعونه ضمن صلواتهم اليومية، وقد قسموا السنة إلى ثلاثة أقسام، وفق الموروث المصرى القديم، مرتبطة بالنيل والزرع والمناخ، تدعو الله: «اصعدها كمقدارها كنعمتك. فرح وجه الأرض. ليروى حرثها ولتكثر أثمارها. أعدها للزرع والحصاد. ودبر حياتنا كما يليق»، «بارك إكليل السنة بصلاحك من أجل فقراء شعبك، من أجل الأرملة واليتيم، والغريب والضيف، ومن أجلنا كلنا نحن الذين نرجوك ونطلب اسمك القدوس؛ لأن أعين الكل تترجاك، لأنك أنت الذى تعطيهم طعامهم فى حين حسن»، «اصنع معنا حسب صلاحك، يا معطياً طعاماً لكل جسد. املأ قلوبنا فرحاً ونعيماً، لكى نحنَّ أيضاً إذ يكون لنا الكفاية فى كل شىء، كل حين نزداد فى كل عمل صالح».. وعندما تعلن الإمبراطورية الاضطهاد على المسيحية ويصل لذروته إبان حكم الإمبراطور دقلديانوس، يتخذ الأقباط بداية حكمه «284م» بداية لتقويمهم، الذى أطلقوا عليه تقويم «الشهداء»، وعلى رأس السنة «نيرو» المتزامن مع اكتمال موسم الفيضان، 11 سبتمبر، وتعنى «عيد مباركة الأنهار»، وفى النطق اليونانى «نيروس» وعربياً «نيروز»، وارتبط هذا التقويم بالزراعة، وما زال الفلاح المصرى يربط زراعته وريه للأرض وحصاده للمحاصيل بها، وترجم مناخ شهورها لأمثال شعبية مبدعة: «كيهك صباحك مساك، تقوم من فطورك تحضّر عشاك»، نسبة إلى قِصَر اليوم فيه.. «طوبة تخلى الصبية كركوبة من البرد والرطوبة»، «أمشير أبوالزعابيب»، حيث الرياح المتربة والعواصف، «برمهات روح الغيط وهات»، حيث موسم الحصاد.. إلخ، إنها الأريحية المصرية والارتباط الحياتى بالنيل والأرض. وكعادة المصريين يرتبط العيد بالأكل، ففى عيد الأضحى المبارك تتصدر اللحوم القائمة، ارتباطاً بالأضحية، وفى المولد النبوى الحلوى، العروسة والحصان، وفى النيروز الجوافة والبلح الأحمر، الأولى لقلبها الأبيض وبذارها الكثيرة، كقلب الشهيد وامتداد رسالته فى أجيال تنمو وتكثر رغم الموت، والثانى قلبه أبيض وبداخله النواة الصلبة، الإصرار، ويكسوه اللون الأحمر، الدم، الذى يسفكه عن طيب خاطر ليروى أرض الإيمان. وتمتد العلاقة المصرية بالنيل لتقتحم الإبداع والشعر، فيأتى أحمد شوقى أمير الشعراء ليغازل النيل ويشدو بكلماته محمد عبدالوهاب: «النيل نجاشى، حليوة أسمر، عجب للونه دهب ومرمر، أرغوله فى إيده، يسبّح لسيده، حياة بلدنا، يا رب ديمُه». ويأتى الثلاثى المبدع عبدالوهاب محمد وكمال الطويل وعفاف راضى ليتواصلوا مع حب النيل، وحميمية ارتباط مصر به وارتباط المصريين أيضاً: «مصر هى أمى، نيلها هو دمى، شمسها فى سمارى، شكلها فى ملامحى، حتى لونى قمحى، لون نيلك يا مصر». لم يكن الأدب بعيداً، فالهيئة العامة للكتاب تصدر مؤخراً كتاب «النيل فى الشعر المصرى المعاصر»، للكاتب خالد أحمد على، الذى يأخذنا فى دراسة مستفيضة تجوب الدواوين والإبداع الشعرى المتمحور حول النيل. وما زال النهر يجرى، وما زال المصريون يبدعون ويغازلونه، وبقى أن ننتبه إلى ارتباطنا الحيوى به، وحتمية تنوير الأذهان حتى نعيد له هيبته واحترامه اللائقين به.