لا أفهم هذا التردد فى إجراء الانتخابات البرلمانية، ولا أفهم حالة الصمت التى تلتزم بها لجنة الانتخابات. يتعمق القلق عندما يدعو البعض لتأجيل الانتخابات لفترة طويلة خوفاً من عودة الإخوان للبرلمان، ليصبح فوز حفنة من الإخوان خطراً يفوق فقدان المصداقية وتعطيل مؤسسات دستورية وحرمان المجتمع من أهم آليات التمثيل السياسى والسياسة المؤسسية. البرلمان وفقاً للتقاليد والثقافة السياسية السائدة منذ عام 1952 هو قناة تتوسط العلاقة بين الشعب والسلطة، بين المواطن الذى يريد لفت انتباه الحكومة لاحتياجاته، والحكومة التى تملك سلطة التنفيذ وتوزيع الموارد. البرلمان وفقاً لهذه التقاليد ليس مؤسسة حاكمة تشرع وتراقب حتى لو نصت الدساتير على ذلك، ولا أظن أن الدستور الحالى سيغير هذا الوضع. الدستور الحالى يمنح البرلمان سلطة أكبر فى اختيار رئيس الوزراء ذى الصلاحيات الواسعة، لكن النص الدستورى غير كاف للتأثير لا فى الدور الذى اعتدنا عليه للبرلمان ولا فى العلاقة المعتادة بين البرلمان والرئيس والسلطة التنفيذية على الأقل فى المدى المنظور، فحكم العادة أقوى من أحكام الدساتير. هذا هو الشكل المتوقع لأداء البرلمان المقبل، وهذه هى العلاقة المتوقعة بينه وبين الرئيس، لأن نوعية النواب الذين ستأتى بهم الانتخابات المقبلة سيكون فيه كثير من الشبه بالنواب الذين جرى انتخابهم للبرلمان طوال السنين المنقضية منذ يوليو 1952. إنه النائب الذى ينتخبه المواطنون بسبب قدرته على تقديم الخدمات، سواء اعتماداً على موارده الخاصة، أو بسبب قدرته على انتزاع نصيب من موارد الدولة لصالح الدائرة التى يمثلها. فى سنوات الانحطاط السياسى استغل من أراد من نواب البرلمان الحصانة للاستيلاء على المال العام أو لتغطية أنشطة غير مشروعة أخرى. إذا واصل عبدالفتاح السيسى وحكومته مقاومة الفساد، فإن نواب المستقبل لن يكونوا قادرين على ذلك، وسيكون هذا إنجازاً كبيراً وخطوة مهمة على طريق إصلاح سياسى تدريجى وطويل الأمد. يعتمد نواب الخدمات على نجاحهم فى التواصل اللصيق مع المواطنين فى دائرتهم الانتخابية، وخاصة مع مراكز القوة المحلية فى الدائرة من عائلات وقبائل وجماعات دينية وقوى اقتصادية، وعادة ما يأتى هؤلاء النواب أنفسهم من عائلات كبيرة تضمن لهم قدراً معتبراً من التأييد المضمون الذى يسمح لهم ببدء المنافسة الانتخابية من موقع مريح. نواب الخدمات هم من القيادات الطبيعية فى مجتمعاتهم المحلية. ولأن عملية تكوين قيادة محلية ليست بالأمر السهل، وإنما تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والمال لسنوات طويلة، فإن أعضاء النخب المحلية الذين يأتى من بينهم أغلب النواب ليس لديهم الوقت ولا الاهتمام للتواصل مع مركز الحركة السياسية فى العاصمة، خاصة أن مثل هذا التواصل لا يضيف كثيراً لفرص فوزهم فى الانتخابات. لهذا نجد أغلب النواب غير معنيين كثيراً بقضايا السياسات العامة الداخلية والخارجية، لا بخطوطها العريضة ولا بتفاصيلها، ولهذا نجدهم مهيئين للقبول بما تطرحه عليهم السلطة التنفيذية من سياسات وتشريعات، فيمنحون التأييد للرئيس والحكومة فى مقابل تعزيز فرصتهم فى الفوز بنصيب أكبر من الخدمات لناخبيهم. قد يتحفظ الكثيرون من نخب العاصمة على جدوى هذا النوع من النواب، لكن هذا ليس هو رأى عموم الناخبين الذين يريدون قناة تصلهم بالحكومة فى العاصمة البعيدة، فالتمثيل هو الوظيفة الأهم للبرلمان، وهذا هو ما يريده الناخبون المطلوب تمثيلهم. صحيح أن برلماناً فيه أغلبية من نواب الخدمات لن يكون مؤهلاً للقيام بوظائف التشريع والرقابة بكفاءة مناسبة، إلا أنه سيظل يؤدى وظيفة التمثيل، وهذا أضعف الإيمان، فالتمثيل ضرورى لتقريب المسافة البعيدة التى تفصل حكام العاصمة عن أهل البلاد. النواب المصريون والبرلمان المصرى ليسوا بدعة فى هذا المجال، فالحال دائماً هكذا فى البلاد النامية، بما فى ذلك البلاد التى قطعت خطوات على طريق الانتقال الديمقراطى، فأخذت من الديمقراطية الانتخابات والبرلمانات وبعض تداول السلطة. فجذر المشكلة لا يكمن فى شكل النظام السياسى بقدر ما يكمن فى مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى، فكلما زاد الفقر وزادت احتياجات الناس وزاد اعتمادهم على خدمات الدولة، كانت الخدمات المباشرة هى الغاية التى يسعى لها الناخب، والتى يختار على أساسها النواب الممثلين له. التردد فى إجراء الانتخابات البرلمانية يحرم الناخب المصرى من قناة مهمة للتواصل مع السلطة، بكل ما قد يكون لهذا من تبعات. على الجانب الآخر فإن التردد فى إجراء الانتخابات البرلمانية يثير إحباط القيادات المحلية، فهؤلاء على قدر ما لهم من نفوذ واسع فى دوائرهم، فإنهم يسعون لاستكمال مسوغات المكانة المحلية عبر الفوز بتمثيل الدائرة فى مجلس النواب. فمنذ عرفت مصر الانتخابات فى العشرينات من القرن الماضى كان التنافس بين النخب المحلية للفوز بمقعد الدائرة فى مجلس النواب هو الجائزة الكبرى التى يجرى التنافس للفوز بها. صحيح أن وجود الأحزاب السياسية المتنافسة، خاصة حزب الوفد، فى المرحلة السابقة على يوليو 1952 أضفى صبغة سياسية على المنافسات المحلية، إلا أن التنافس على الزعامة المحلية، وليس الاختلاف حول المبادئ الحزبية كان هو الدافع والمحرك الأساسى للتنافس الانتخابى فى الدوائر. الإسراع بإجراء انتخابات البرلمان على عواره هو الطريق الآمن لاستعادة السياسة. فالأكثر خطورة من برلمان محدود الفعالية هو تجريف المجتمع من السياسة وتعطيل مؤسسات التمثيل السياسى الشرعية، والتى يدفع غيابها الناس لسياسات الشارع الخطرة.