وجّهت والدة الصحفى الأمريكى جيمس فولى رسالة إلى أبى بكر البغدادى زعيم «داعش»، تتوسل إليه ألا يعدم ابنها، وطالبته بأن يقتدى بالنبى، صلى الله عليه وسلم، فى العفو، وقالت له عبر قناة «العربية»: «بإمكانك أيها الخليفة العفو عنه، وأطالبك بإطلاق سراح ابنى واستخدام سلطتك لإنقاذ حياته.. فابنى ليست له سيطرة على السياسة الخارجية الأمريكية، وأرجوك أن تترك ابنى اقتداءً بعفو النبى محمد.. وأرغب فى كل ما ترغب فيه كل أم وهو أن تحيا كى ترى أبناء أبنائها.. أتوسل إليكم أن تمنحونى هذا الحلم».. ولكن «داعش» أصمت أذنيها عن رسالة هذه الأم وأعدمت ابنها بصورة وحشية مقززة وفصلت رأسه عن جسده.. ونشرت الفيديو فى العالم كله. ورغم ذلك الفيديو الصادم الذى شاهدته أسرة «فولى» وأصدقاؤه ووالدته، فإذا بهذه المرأة غير المسلمة تقول «أمة محمد لا تقتل».. إنها رسالة موجزة قصيرة دقيقة معبرة.. أمة النبى صلى الله عليه وسلم، لا تقتل المدنيين ولا تمثل بالجثث ولا تفخر بقتل الأبرياء.. هذه المرأة لم يحملها غيظها وضيقها وكمدها من «داعش» على ألا تبرئ الإسلام العظيم من هذه الأفعال الصبيانية الهمجية.. وكأنها تنادى فى الدنيا كلها «الإسلام برىء من دم ابنى، وشريعته براء من ذلك». فالإسلام برىء من القتل بالجنسية الذى ابتدعته «القاعدة» وأفتت به من قبل بقتل كل أمريكى أو يهودى.. فقد حارب الصحابة الروم والفرس ولم يقولوا بقتل كل رومى أو فارسى.. بل إن عمر بن الخطاب كان سابقاً لعصره حينما كان يقول لجيوشه التى تخرج للقتال «اتقوا الله فى الفلاحين، فإنهم لا يناصبونكم العداء»، فقد نطق بالحكم، وهو حرمة قتل الفلاحين، وهم «المدنيون فى عصره».. وبيّن العلة فى ذلك «بأنهم ليسوا من أهل المقاتلة والحرب».. استلهاماً لقوله تعالى «وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ».. «فمن يقاتلنا نقاتله.. ومن لا يقاتلنا يحرم علينا قتاله». وهذا المعنى أوضحه النبى صلى الله عليه وسلم، حينما رأى امرأة مقتولة، فقال «ما كانت هذه لتقتل».. وفى رواية «ما كانت هذه لتقاتل»، وكلتا الروايتين تفسر إحداهما الأخرى.. فما دامت لا تقاتل فلا تقتل.. ويلحق بذلك وصايا النبى صلى الله عليه وسلم، وخلفائه «لا تقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا فانياً ولا راهباً فى صومعته».. وكل هؤلاء هم المدنيون فى لغة القانون الدولى الذى سبقه الإسلام بأكثر من 14 قرناً. إن القتل بالجنسية لم يكن يعرفه الفقه الإسلامى حتى جاءت «القاعدة» لتخرق أعظم خرق فى الإسلام وتُفتى بالقتل بالجنسية.. ناسية أن هناك أمريكياً مسلماً أو يابانياً أو صينياً أو متعاطفاً مع القضية الفلسطينية أو محباً للعرب أو لا شأن له بالسياسة من أصله.. ودون أن تفرّق بين أمريكى وآخر.. ناسية قوله تعالى وهو يتحدث عن أهل الكتاب «ليسوا سواءً».. وهذا قمة العدل القرآنى. إن هذه المرأة الأمريكية تعرف الإسلام وتفهمه -رغم عدم إسلامها- أكثر من «داعش» وجنودها وكثير من المسلمين.. لقد برأت الإسلام والنبى محمد صلى الله عليه وسلم، من مثل هذا الصنيع، وداست على مشاعرها لتُنصف الإسلام ونبيه الكريم من جريمة قتل المدنيين باسم الإسلام. إنها أكثر دراية من «داعش» بقوله تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ».. ولكن «داعش» وأخواتها يفهمون الآية على نحو غريب: وما أرسلناك إلا ذابحاً للعالمين، أو مفجراً للعالمين، أو مفرقاً وممزقاً للعالمين، أو مدمراً للعالمين.. فيندُر أن ترى أو تسمع أو تقرأ عن خبر رحيم وعطوف وفيه شفقة وعفو صنعته «داعش» وأخواتها. والسر فى ذلك أنها عاشت فى مغالطة كبرى، وهى نسخ كل آيات الصفح والعفو والرحمة والتعدُّدية الدينية بآية واحدة هى آية السيف.. وكأن الإسلام طوال تاريخه بعد نزول آية السيف لم ولن يعرف الرحمة بالآخر أو الصبر على الآخر.. أو العفو أو الصلح أو التحالف مع الآخر.. أو قبول التعددية الدينية أو الفقهية أو السياسية. آهٍ يا أم جيمس.. أنتِ برّأتِ الإسلام الرحيم العظيم ونبيه الودود من قتل ابنك جيمس.. وأنا أقول مضيفاً إلى كلمتك.. الإسلام برىء من قتل «السادات» باسم الإسلام.. ف«السادات» هو صاحب أول وأكبر نصر عسكرى على إسرائيل فى العصر الحديث.. إنه حتى الآن النصر الأول والأخير. والإسلام برىء من تفجيرات دهب وشرم الشيخ وطابا وغيرها وكلها طالت السياح أو المصريين العاديين الذين لا ناقة لهم ولا جمل فى السياسة.. حتى إن تفجير شرم الشيخ قتل فيه 84 شاباً مصرياً.. كلهم مسلمون فقراء يعملون فى شرم الشيخ.. والإسلام برىء من قتل الجنود والضباط فى الكمائن أو الطرق أو النقاط الحدودية. والإسلام برىء من كل التفجيرات، مثل تفجيرات الرياض والدار البيضاء وعمان وباكستان.. وتفجيرات المترو فى لندن أو مدريد.. وكلها طالت المدنيين المسالمين. والإسلام برىء من قتل أى متظاهر سلمى.. أو معتصم سلمى كان يمكن فض اعتصامه بالماء أو الغاز. لقد حمّلنا الإسلام العظيم أوزارنا وأخطاءنا.. حمّلناه تفحُّش ألسنتنا.. وحمّلناه هوى نفوسنا.. وعمى قلوبنا وشهواتنا وأمراضنا ورغباتنا الشريرة. وقد خلصت من حياتى كلها إلى أن الله قد لا يغضب ممن يصل إلى الدنيا بالدنيا.. ولكنه يغضب أشد الغضب ممن يريد أن يصل إلى الدنيا بالدين.. أو يريد أن يحمّل الإسلام كل أفعاله فيدّعى شرعية كل ما يصنع حتى لو كان مخطئاً آثماً.. مثل الذين شرعنوا التفحش فى وقت من الأوقات.. فشرعية التفحش أخطر من التفحش.. وشرعية القتل أخطر من القتل. إن أزمة الإسلام الحقيقية تكمن فى المسلمين الذين يمثلونه لدى الآخرين، حيث يعطون للآخر أسوأ صورة عنه. ففى بلادنا ديكتاتورية لا حد لها وفقر لا نظير له وجهل لا مثيل له واعتماد على الآخر الذى نشتمه ليل نهار. فانظر إلى الأسلحة كمثال أو الأجهزة الطبية والعمليات الجراحية كنموذج.. فنحن لا نجيد حتى تقليد صناعات الغير فيها.. وبعضها لا نستطيع إصلاحه. إن الغرب لو أنفق مليارات الدولارات ما استطاع تشويه الإسلام مثلما فعلت «داعش» وأخواتها فى هذه الأشهر الماضية.. وصدق من قال «الإسلام قضية عادلة يتولاها محامون فاشلون» فتخسر هذه القضية.. ولو أنهم تركوا الإسلام يدافع عن نفسه لصال وجال فى الدنيا كلها معلماً وناصحاً ومرشداً وميسراً لا معسراً.. ومجمّعاً لا مفرّقاً.. وراحماً لا قاسياً.. وداعياً لا جابياً ولا ذابحاً.. ومحبباً إلى الناس لا منفراً لهم.. ومحيياً للنفوس لا قاتلاً لها.