لا أعلم السبب الذى جعلني اتذكر الأكلتين المصريتين الشهيرتين " المسقعه" و" الكشري"، عندما كنت سارحا فيما تقدمه غالبية وسائل الإعلام المصرية، فقد تبينت، أو هكذا هيئ لي، أن ما تقدمه غالبية وسائل الإعلام المصرية، المسموعة والمقروءة والمكتوبة وبخاصة برامج " التوك شو"، أشبه ب " المسقعه" و" الكشري "! ف " المسقعه والكشري "، تتشابهان في أن كل منها يتم طهيه بوضع خليط غير متجانس من الخضروات والحبوب لا علاقة لأى منها بالآخر، ويشتركان كذلك في الطعم غير المميز بنكهة محددة، فأنت وبعد أن، تلتهم طبق " كشري " أو " صينية " مسقعه "، لا تستطيع أن تحدد علي سبيل الدقة المذاق الذي يظل عالقا بفمك، وهل هو طعم الأرز أو العدس أو "التقلية " ، أو الباذنجان أو البطاطس أو حمص الشام !! ما نشاهده على العديد من الشاشات توليفة لا علاقة لها بالإعلام الصحيح من قريب أو من بعيد، سواء في الشكل أو المضمون، وهو ما ترك ردود أفعال كثيرة لدي رجل الشارع العادي، الغالب الأعم من ردود الأفعال هذه هو الرفض والاستياء والاستهجان مما يقدم على كثير من الشاشات. إننا نري على الشاشات، خليط غريب من " اللت " والعجن " والفتي " و" الادعاء بالعلم في كل شيىء" من أول إعداد ساندويتشات الفول والطعمية، إلى صناعة الصواريخ العابرة للقارات، مرورا بصناعة الدساتير، وتاريخ الثورات، وتشكيل الحكومات .. وغيرها .. وغيرها !!! نري علي الشاشات مقدمي برامج تحولوا إلى زعماء سياسيين، ومنهم من لم يتورع ان يتلون سياسيا عدة مرات منذ احداث يناير .. نري علي الشاشات إخلالا بقصد أو بجهل بأبحديات العمل الصحفي التلفزيوني .. نري انتقاء لأخبار أو موضوعات بعينها، سواء بالتجاهل او الهجوم وإما بالتضخيم أو الترويج ! نري على الشاشات محاولات مستمرة للتقرب للجالس على كرسي الحكم، إما بالنفاق والتأييد، وإما بالابتزاز! نري علي الشاشات اتفاقا غير متفق عليه بين غالبية صناع البرامج على تجاهل المتلقي، وماذا يريد وما هو دور الإعلام في توجيهه أو تثقيفه .. نري تلافيا متعمدا لقراءة مدي تأثير الممارسات الإعلامية غير المسئولة على الناس محدودي الثقافة. إنني لا أسعي من وراء كلماتي هذه رغم قسوتها إلي إهالة التراب على كل شيىء أو توجيه الاتهامات لأحد بعينه، ولكن لقد طفح الكيل بسبب غياب المهنية وتجاوز الأسس الأخلاقية وانعدام المسئولية المجتمعية. يجب أن نعترف أننا غالبية وسائل إعلامنا تسير بلا بوصلة، تسير بلا ضوابط وبلا اسس تظيمية، تسير بلا خبرات مدركة لأبسط القواعد المنظمة للعمل الإعلامي، وليس عيبا ان نعترف بأخطائنا، وليس عيبا أن نسارع بمراجعة انفسنا، علينا جميعا أن ندرك أن مجتمعنا في حاجة ماسة إلى إعلام قوي واعي، يمارس كل أنواع الإعلام من نقد ومعارضة وتوجيه ومراجعة، ولكن بمسئولية واحترافية. لابد أن نذكر أن عدد لابأس به من وسائل الإعلام المستقلة، مقروءة ومرئية، كان لها الفضل في دفع الناس للخروج اعتراضا على ممارسات نظام مبارك، ولكن وبعد أن خرج الناس الي الشوارع للمطالبة بالحقوق المشروعة، فشلت وسائل الإعلام في احتوائهم وتجنيبهم الانقسام وحمايتهم من الوقوع في براثن تجار الثورة والسياسية. إن المطالبة بتنظيم الممارسات الإعلامية ليس بدعة وليس طلبا بعيد المنال .. لقد كان أول الدروس التي تلقيناها ونحن نخطو أولي خطواتنا في عالم الصحافة، قبل أكثر من ثلاثة عقود، ان الكلمة اخطر واقوي تأثيرا من الرصاصة .. كانوا يقولون لنا أن الرصاصة عندما تخرج، بقصد او بدون، من فوهة بندقية او ماسورة طبنجة او مسدس، فإنها قد تقتل او تصيب شخصا او اكثر، ومهما تفاقم الوضع فإن عدد الضحايا سيكون محدودا، أما الكلمة التي قد تخرج بدون تدقيق أو بقصد سيىء قد تشعل نيرانا، بشكل او بآخر، في مجتمع او امة بكاملها! تعلمنا ان رسالة الصحفي في المجتمع تفوق، وبلا مبالغة، رسالة القاضي، باعتبار ان القاضي، وهو صاحب رسالة مقدسة بلا أدني شك، عندما ينطق بحكم ما، فإنه ينهي نزاعا في قضية ذات اطراف محددة، وحتي اذا ما اخطأ قاض او انحاز في حكم اصدره، بقصد أو بدون، فإن الظلم، هنا، يلحق بفرد او بمجموعة أفراد قليلة العدد، كما ان هناك سبلا كثيرا رسمها القانون تتيح الاعتراض أو الطعن علي مثل تلك النوعية من الاحكام، بما يتيح تصويبها او تعديلها او إلغائها، اما الحكم الظالم الذي قد يصدره صحفي، بجهل او بسوء قصد، فإنه قد يهدم كيانات ومجتمعات بكاملها. علمونا ايضا ان الصحفي، عليه الالتزام بذات المحاذير التي يتوجب علي القاضي الالتزام بها في حياته العادية .. في حرصه ان يعيش وكانه يحيا في برج عاجي، بعيدا عن الناس، ينأي بنفسه عن مواطن الشبهات ويحرص علي الدوام علي الا يكون طرفا في خصومة، والا يكون مساندا او مناهضا لطرف في منازعة، ورغم تلك المحاذير، إلا أن المكان الحقيقي الذى يجب أن يتواجد فيه الصحفي هو أن يكون وسط الناس، يشعر بما يجول بخواطرهم، يتبني مظلوميتاهم، يدافع عن حقوقهم، يعبر عنهم، يتحدث بلسانهم. تعلمنا أيضا .. أن المحاذير والتحسبات العديدة التي يجب أن يلتزم بها بالصحفي، لا يجب أن تشكل حائلا بينه وبين المجتمع بكل فئاته وبإختلاف توجهاتهم واهوائهم ! بالله عليكم .. هل أي من هذه الوصايا او التعاليم لا تزال قائمة أو موجودة ؟!