وسط هدوء شديد بميدان الجيزة، تراصَّت عدة أتوبيسات ذات طبيعة مختلفة عما حولها بألوانها المتداخلة بين الأبيض والأخضر، وكأنها قد لونت وجهزت للتو، وعلى عكس السائد من الضجيج والأصوات العالية التي عادة ما تنتشر في وقت الظهيرة، لفتت تلك الأتوبيسات الانتباه بنظافتها غير المعتادة، وعدم وجود "تباعين" لها، بجانب الملصقات التي وضعت عليها على خلاف غيرها من "الميكروباصات" الموجودة، فهي محددة الاتجاهات بين "ميدان الجيزة، الرماية، شارع الهرم، جهينة، الحصري"، والأجرة الموحدة "1 جنيه"، إلا أن الملصق الذي توسَّط زجاج المقدمة المكتوب عليه "خدمة المواطنين"، يثير التساؤلات في ذهن المارة الذين يدركون سريعًا أنها تابعة لجهاز النقل العام للقوات المسلحة لمساعدة المواطنين بعد إضراب السائقين لرفضهم ارتفاع أسعار البنزين والسولار. "الوطن" عايشت ورصدت مساندة الجيش للمواطنين، كعاتدته دائمًا، في أزماتهم، وخاصة في أزمة المواصلات الأخيرة التي نتجت عن رفع أسعار الوقود. ووقف بجانب الأتوبيسات عدد من المجندين التابعين للقوات المسلحة، وسط إقبال كثيف من المواطنين، لإرشادهم عن واجهة الأتوبيس، ومساعدتهم، وآخرين للقيادة، بابتسامتهم البسيطة على الرغم من حرارة الجو المرتفعة وصيامهم، وتواجدهم منذ الصباح الباكر، وقال أحد المجندين- رافضًا ذكر اسمه: "إحنا اتحركنا من النقل العام الساعة 8 الصبح علشان نلحق نوصَّل الناس شغلهم بدل بهدلة الميكروباصات، واللي مش معاه ممكن ميدفعش، بس مش عارفين هنفضل لإمتى ولا لكام يوم، بقوة 12 أتوبيس سعة 46 راكب، وإحنا بنساعد الناس ومبسوطين من ده". "أحلى خدمة في العالم كله، الأوروبي والعربي، وكفاية أنها أتوبيسات نظيفة، وخاصة للغلابة اللي مش معاهم غير جنيه، وكأنها ببلاش" كلمات قالتها نجوى علي، ربة المنزل السيدة الخمسينية مرتدية عباءتها السوداء، حيث عبَّرت عن سعاتها الشديدة بهذه الخدمة، أثناء وجودها داخل الأتوبيسات، متمنية أن يستمر وجود تلك الخدمة لمنع استغلال سائقي الميكروباصات. فيما قالت السيدة الأربعينية زينب أحمد، التي أنهكتها ساعات العمل الطويلة بمركز البحوث بالجيزة: "كفاية إن أنا قاعدة مستريحة، حتى لو هيغلّوها هنركبها، ده إحنا نبوس تراب رجليهم على الخدمة دي"، وذلك بعد استنكارها الشديد لارتفاع أجرة باقي وسائل المواصلات والتي يصعب على بعض العائلات تحملها. "في طمع وجشع، ولو استمر الجيش في خدمته، باقي السواقين هيتلمّوا بالأسعار العادية ومش هيغلّوا" هكذا يقول خليل أحمد، الرجل الستيني، والذي أصبح منهك القوى بعد انتهاء فترة عمله، وظهرت على وجهه أقصى علامات التعب والرفض لحالة الإضراب والاستغلال التي يقوم بها السائقون. وأثناء مساعدته أحد الراكبات في الصعود إلى الأتوبيس، قال أحد الضباط إن هذه الأتوبيسات كانت تستخدم لنقل أفراد الجيش من معسكراتهم إلى مناطق سكنهم لقضاء فترة الإجازة، وتابعة لقطاع المركبات، إلا أنها تم طلاؤها ووضع هذه الملصقات عليها حتى لا تتعرض لأي محاولات استهداف "بس إحنا مستعدين بأسلحتنا لأي هجمات أو قلق". ووسط هذه الأتوبيسات وقف أحد سائقي "الميكروباصات"، الذي تبدو عليه علامات الإرهاق في ظل حرارة الجو ومشقة الصيام، قائلًا "موضوع الأتوبيسات ده أثر على السواقين الجشعين بس، لكن إحنا مبسوطين بمبادرة الجيش، وكله في خدمة الشعب". وبتلقائية شديدة خرجت كلمات من سيدة ستينية حفرت السنوات ملامحها، معبِّرة عن سعادتها الشديدة بوجود الأتوبيسات قالت فيها "جيشنا أحلي جيش في العالم، وحاسس بينا"، وعلى الرغم من أن نجوى تمتلك سيارتها الخاصة لكنها قررت تركها لتستقل أتوبيسات القوات المسلحة، خاصة بعد أزمة رفع الدعم عن البنزين، "الخطوة حلوة أوي أنا ركبتها من المريوطية لميدان الجيزة، وهتقضي على مافيا الميكروباصات، و يا رب تستمر وما تكونش حل لأزمة وتنتهي، بالرغم من أنها عبء على الجنود والوزارة". وتنظر رانيا محمد، بحماسة شديدة إلى أتوبيس القوات المسلحة، بينما تركب الميكروباص الذي يصرخ سائقه "الأجرة بقت جنيه ونص يا أساتذة"، معربة عن رغبتها في أن يمتد اهتمام القوات المسلحة إلى تعميم الأتوبيسات في كل المناطق "يا ريت يغطي أماكن أكتر عشان يخدم أكبر قدر ممكن من الركاب، ويريحنا من استغلال السواقين". "اللي بيحصل ده مش جديد على الجيش، دايمًا واقف في ظهرنا" قالها رجل أربعيني بسعادة شديدة وهو يصافح رجال القوات المسلحة، بينما تظهر في الخلفية سيدة خمسينية ترتدي اللون الأسود وتحمل عددًا من الأكياس تتجه ببطء إلى الأتوبيس لتستقله، لتقول بسعادة تتناقض مع ما تحمله في قسمات وجهها "خليهم ينشوا ويشحتوا كده، الأجرة اتنين جنيه ليه على طول بنركب بجنيه ونص، والسواق نزلني عشان مدفعتش"، وأنهت حديثها وهي تدعي للجيش المصري "يا رب يعينكم ويقويكم".