يومها، كان المكان مزدحماً بالبشر، الجميع يتحرك بلا توقف، الضجة تزداد وعلى ما يبدو لن يهدأ إزعاج المكان عن قريب، وبين كل الحضور وقعت عيناها عليها، من بين الحضور جذبتها الذكرى المشتركة، العمر الذى لا يعرف عنه غيرهما، الكلمات التى لم تُنطق إلا معها، بلا تفكير توجهت لها، لتضع أمامها نظرتها المتسائلة «أعرفتيننى؟»، وفى أقل من لحظة ضمتها إليها بشوق طال احتماله وبنشوة لقاء لم تتوقعاها، طال ذاك الحضن لثوانٍ أو لعلها أكثر، لكنها كانت كافية لنسيان الدنيا وما فيها، وما بين «اشتقتلك» و«أنا أكثر» اختفت حمول قلبيهما، ما أغربها وأعمقها وأبقاها وأعقدها علاقات البشر، إنها أغرب صداقة مرت بهما، إنها واحدة من تلك الذكريات التى لا تشوّه معالمها الأيام، عشر سنوات مرت عليهما ولكن ما زالت «حنين» متأكدة أنها أول وآخر من حدثته «سلسبيل» بما حدث لها. كان يوم كلتيهما يبدأ وينتهى عند الأخرى وبصحبتها، الفرق بينهما خمس سنوات أو أكثر، سلسبيل فى آخر سنوات المرحلة الإعدادية، حنين فى أوائل سنوات الابتدائية، اللقاء اليومى فى طريق الذهاب والعودة من المدرسة، المشهد الدائم، سلسبيل إلى جانب النافذة، حنين جالسة على رجليها حولهما ستار العربة، تنظران للعالم الخارجى لكل شىء يمر بهما أو تمران به، ولا ينقطع بينهما الحديث، لا تدركان كيف بدأ الأمر أو متى أو لِمَ، ولم تحاولا أبدا، تتكلمان ولم تجدا يوما حلول مشاكلهما المنشودة، لكن وجدا معاً الراحة فى البوح، الحوار الذى لا ستار فيه غير الذى يدور حولهما فيفصلهما عما حولهما حتى لحظة الوصول، كثيرا ما كانت سلسبيل تحاول إقناع نفسها بأن حنين صغيرة ولن تتذكر ولا تدرك ما يقال حتى تتمكن من الحديث، لم تستنكر حنين الوضع فقد كانت تعرف كم هو مؤلم ما يُقال ويحتاج للكثير من الشجاعة، تلك التى يكتسبها كل منّا فى كل موقف بطريقته، على الرغم من تلك القناعة المزعومة تعرف سلسبيل أن مَن أمامها هى وحدها مَن يعرف ما بها وتتفهم عقلها وما تحمله روحها، وأنها على يقين أن ما بينهما صداقة قصيرة العمر طويلة الأثر والمدى، شكّلتها ساعات صراحتهما القليلة الصادقة. إنها حالة لن يفهمها إلا من عايشها، لا قوانين لها ولا تحليلات أو أسباب أو معايير وحدود، فالإنسانيات ستفاجئنا باستمرار بكل ما لم يخطر بخيالاتنا يوماً. سلسبيل علمتها بثقتها وحبها ومعاناتها وصمودها، حنين كانت لها الاحتواء والوجود، كانت الإنسان الذى فقط تزِنهُ روحه وعقله وقلبه بلا أعمار وأرقام على ورق. «جيد ستجديننى فى الجوار إن أردتِ»، قالتها ورحلت سلسبيل، منتشلة حنين من ذكرى ما طوتها السنون، رحلت سلسبيل مُعلنة برحيلها أن ما بينهما باقٍ ولكنه مؤلم، فلن تبقى لتذكر إحداهما الأخرى بوجع قد مضى، ولتشاركا فيه طويلاً، رحلت فى محاولة جديدة للتظاهر بالنسيان ولكن ستبقى تلك الضمة الحانية برائحة الوَنَس والعشق دليلاً على أن أمام كل مواجهة لن يكون هناك مجال للتظاهر.