من فعل هذا الحادث لم يقصد فقط تعكير صفو فرحتنا بما شاهدناه يومها، ولكن كان يقيس لدينا مهاراتنا الإدراكية وسرعة انجرافنا العاطفى. وبعد احتفال مهيب، عظيم، يحدث لأول مرة فى الوطن العربى، بل فى الدول النامية، وهو تسليم السلطة الرئاسية من رئيس إلى رئيس آخر منتخب. وبدت مصر فى أبهى حلة لها، وأجمل زينة، نهاراً بعظمة ووقار القضاة، ظهراً بزعامة وريادة عربية وأفريقية، ومساءً بتاريخها وعراقتها وسط أبنائها فى أحد أعظم قصورها بعد قصر عابدين، قصر القبة. وفى تقليد مهيب، خرج رئيسان معاً، لتحية الشعب، أحدهما سيظل فى القلب، نقدره، والآخر فى العين، ننتظره.. ولمسة وفاء لأرملة زعيم راحل اغتيل ممن أرادوا أن يغتالوا الوطن، ترافق شريكة كفاح القائد الجديد، فى معركة جديدة لبناء مصر. وقفت مصر كلها تحيى المشهد، فرحة، كأنها تشاهد مشهداً من قصور حكايات ألف ليلة وليلة، وبعد كلمة الرئيس الغائب، الحاضر فى القلوب، أتى خطاب الرئيس المنتخب، محدداً، واضحاً، لكثير من المفاهيم، بخطوط عريضة، وكلمات مفهومة، لا تقبل قولين أو معنيين.. الكثيرون ارتاحوا واطمأنوا على كثير من هواجسهم، والبعض الآخر قلق كثيراً.. حيث أكد مخاوفهم. فأتى مشهد مضطرب لا ندرى إن كان واقعة أم حادثة incident or accident من الكثير من الأطراف، أين؟ فى ميدان التحرير الذى وقف الجميع فيه 5 ليالٍ يفرحون ويرقصون ولم يتعرض لهم أحد. مشهد، كضربة سكين فى قلب الاستفتاء والانتخابات.. فى كيان المرأة المصرية التى تحاكى عن دورها فى الخارج قبل الداخل.. المرأة التى حياها الرئيس من لحظات، وليس هذا بغير معتاد، فبعد كل حدث مثل يوم التفويض 26/7، كان خبر حادث المنصة، واحتفالات أكتوبر وحفل التنصيب، لا بد من خبر سلبى كئيب فى اليوم التالى. حتى إن الإعلام الغربى أصبح معيراً: إن السيسى المنتخب غير قادر على حماية أنصاره من السيدات اللاتى أيدنه بكثافة! اللافت فى الحادث هو سرعة انتشاره بسرعة البرق لحظة حدوثه بتقنية الwatermark، وأنه انتشر على صفحات إخوانية بربع مليون مشاهد قبل أن يصل إلينا! فأكيد أى شخص سيشاهد الyoutube الحاصل على نسبة هذه المشاهدة فى دقائق! الحادث شارك به خمسة رجال أو أكثر، واستخدمت فيه آلات حادة، وأكيد كان هناك صوت صراخ غير أن كل المحيطين لم ينقذ الضحية، إلا لو كان المشاهدون معدومى النخوة والرجولة، أو مشارك صامت! ولن أتساءل عن أسباب التحرش والاعتداء الجنسى والاغتصاب والوعى المجتمعى وقلة الزواج وو و.... فى رأيى المتواضع: ماذا تريد من أب (مبرشم وضارب حجرين) يذهب إلى غرفة مستطيلة ينام بها أجساد مرصوصة من زوجته مع 9 من أولاده، لا يعلم أى ساق تنتمى إلى أى جسد فى الظلام، وإذا انزاح الستار الفاصل فى هذه الغرفة؟ من المستور من العارى؟ أم أنكم لم تسمعوا عن اغتصاب والتحرش بأطفال العائلة الواحدة؟! وكلمات مثل (تعالى أخليك راجل يا وله، ده أنا أبوك)؟ والمساكن الشعبية ذات الحمامات المشتركة، ماذا يحدث بها؟ كم واحد يدخلها سوياً؟ هناك أجيال فى مناطق لم تتربَّ على مصطلح حُرمة الجسد. أجيال لا تعرف غير الشهوة والغريزة، وأقراص ومقاطع أفلام والملصقات. أمراض العشوائيات ليست كلها صحية، أو عضوية، بل أخلاقية تربوية مزمنة. ما لفت نظرى هو ظاهرة الاستقطاب polarization التى ما زلنا نعانى منها منذ 3 سنوات، أن يستطيع أحد أن يجرفك عن الحدث الأساسى، بحدث آخر، تكون أنت صانعه، مشارك فيه (بنشره)، متعاطفاً معه.. دون معلومات أكيدة. الجميع علق على الحادث، ولم يدرك أن فى نفس اليوم وقع حادث تحرش ب17 تلميذاً فى إحدى مدارس الصعيد. وأنه فى نفس اليوم صدر حكم بالسجن 15 سنة على رجل هتك عرض طفل فى الشرقية، ولكن لبشاعة حادث التحرير وموقعه وتوقيته، لفت الانتباه، وشغل صفحات التواصل عن أهم خبر يطمئن مصر، وهو دعوة الرئيس إلى زيارة إثيوبيا للتنسيق فى مشكلة سد النهضة. من فعل هذا الحادث لم يقصد فقط تعكير صفو فرحتنا بما شاهدناه يومها، ولكن كان يقيس لدينا مهاراتنا الإدراكية وسرعة انجرافنا العاطفى وراء حدث، حتى إن كان مصوراً بتاريخ قديم أو حدث مماثل يحدث بأقل بشاعة.. ولأننا ننسى، فلا أذكركم بحادث فتاة موقف العتبة سنة 2002. كان يريد أن يتأكد أنه يستطيع أن يخترقنا مرة أخرى، ولتكن الأخلاق سلاحه بعد غطاء الدين الذى فشل. المتحرش له عقوبة رادعة الآن، وهو أول اختبار لسرعة التقاضى فى الحكم الجديد. أما أسلوب تفكيرنا وتحليلنا للأحداث فهو الأهم والأخطر.. كيف لا ننجرف مرة أخرى؟ كيف نميز بين من ينشر معلومة أو خبر، ومن يوقد ناراً؟ كيف نتعامل مع حواسنا من سمع وبصر وكلام على أنها وسائل إدراك وليست أدوات استقبال وتوجيه. لقد تم قياس قدرتنا على الاستقطاب من جديد، وفى أول ليلة مع رئيس منتخب.. وكل منا عرف درجته، وهل نجح أم لا؟ وللحديث بقية..