في 19 فبراير 2010، خطى بقدميه على أرض مطار القاهرة، فاستقبله الشباب المتحفِّز للتغيير استقبال الفاتح، مرحبين مهلِّلين بالرجل الذي وقف أمام "مبارك" مرفوع الرأس يحدِّثه عن خطايا نظامه، ولم تنكسر عيناه باستقبال وتكريم الحاكم لصاحب جائزة نوبل للسلام، فولد محمد البرادعي الناشط السياسي في أواخر عقده السادس، تكسو الشيخوخة على جسده وهيئته، ولكن ظلَّت أفكاره الشابة لم ينل منها الشيب بعد، فترك الدبلوماسية الدولية، كما ترك المصرية من قبل، بعد استقالته من الخارجية اعتراضًا على بعد بنود اتفاقية "كامب ديفيد"، وبدأ حلم بالتغيير، وقال في أول تدوينة سياسية ولدت على حسابه ب"التويتر" المزدحم بالآراء والأفكار: "باسم كل شعب مصر، أؤكد لك أن غدًا لناظره قريب، قد يكون هذا النظام الفاقد الإنسانية ماضينا وحاضرنا، ولكن لن يكون مستقبلنا". طريق "البرادعي" لم يكن ممهدًا بالورود، ولكنه جاء بفكرة واقعية، فمع انتهاء الأسبوع الأول لوصوله لمصر، أعلن عن تشكيل الجمعية الوطنية للتغيير، جمعت تحت مظلَّتها تيارات سياسية اختلفت توجهاتها واجتمعت على معارضتها ل"النظام"، فتبنَّت فكرة الضغط، من أجل تعديل الدستور، وإلغاء قانون الطوارئ، فكانت التعليمات الرسمية بالتهميش والتشويه المنظم للرجل، فأصبح من بطل يحتفى به بعد حصوله على "نوبل" إلى عميل، أسقط العراق في غياهب الاحتلال ويسعى للسلطة، مستغلِّين إعلانه في 2009، عن احتمالية ترشحه للرئاسة، في وقت كان يطرح فيه سيناريو التوريث بقوة، ولكنهم نسوا للرجل اشتراطه النزاهة للمشاركة فيها. الفكرة لم تمت، بل طافَت بجناحيها لتنتشر، وساعدتها رياح ظن النظام أنها مضادة، فدعا الرجل المعارضة لمقاطعة انتخابات برلمان 2010، ولم تستجب جماعة الإخوان وحزب الوفد وقوى المعارضة للدعوة، فكان التزوير الفج في وضح النهار، فانسحبوا على إثره، وظلَّت الفكرة تطوف والتشويه يطارد "البرادعي"، فبعد أن ترك القاهرة إلى النمسا، اتهم بالهروب، وبعد عودته إلى الميدان في يناير 2011، اتهم بالخيانة، وتنفيذ مخطط أمريكي لإسقاط النظام، ولم يعبث وخرج مع الشباب من أجل حلم الثورة. "الفترة الانتقالية والتى تعتبر محوريَّة لمصرنا الجديدة ما زالت تتسم بالغموض، قلق من أن الثورة يتم تحويل مسارها"، "الرئيس سقط والنظام قائم بأركانه حذارًا من الالتفاف على الثورة"، تحذيرات ظلَّ يهتف بها "البوب"، بعد "تنحِّي مبارك"، ولا أحد يستمع، فخشي على الثورة من أن يركبها فصيل أو تيار بعينه، وحذَّر من بقاء سياسات نظام رحل رئيسه، ولكن الاتهامات طاردته، وتجاوزت نحوه إلى المطاردة والاعتداء والقذف بالحجارة والأحذية، أثناء وقوفه على عتبات اللجنة الانتخابية، ليدلي بصوته في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وذلك لأن الرجل دعا للتصويت ب"لا" على التعديلات الدستورية، لكي يكتب الدستور أولًا، ولكن محبي الاستقرار، والباحثين عن دوران عجلة الإنتاج، وأصحاب "غزوة الصناديق" بغضوا "لا"، وحوَّلوا التصويت على الدستور لصراع ديني. "البرادعي" ظل مبغوضًا ومطاردًا بتهم "العمالة" و"الخيانة العظمى"، ويتعرَّض للإساءة والطعن في حياته الشخصية كل يوم، حتى قرر في موقف جديد الانسحاب من سباق الرئاسة الذي كان أعلن عن نيَّته الترشّح فيه بعد ثورة يناير، ولكن الرجل قرر بعدها إنشاء حزب "الدستور"، والمشاركة في "جبهة الإنقاذ المصري" فيحكم محمد مرسي، الذي وصفه ب"الفرعون"، و"الحاكم بأمره"، بعد سياساته هو وجماعاته في الحكم، فأصبح عدو "الإخوان"، الذي لاحقته الجماعة بالبلاغات، وعاد متهمًا مرَّة أخرى ب"الانقلاب على الشرعية". سقط "مرسي"، وأصبح "البرادعي" في أول منصب رسمي بعد ثورة 30 يونيو، "نائب رئيس الجمهورية"، والذي سُرعان ما تحوَّل إلى "متهم" من جديد بعد أيام معدودة في المنصب، لرفضه فض اعتصام "رابعة العدوية" بالقوة، فاستقال "البرادعي"، وعاد الرجل لصفوف المتهمين، والمغضوب عليهم، فيكون المذنب الأعظم، ومع دوران عجلة الزمن، يصبح "البرادعي" العرَّاف صاحب النبوءات الصائبة.