وجه مبتسم يعلوه خصلة كبيرة من الشعر الأبيض، تتوسط شعر أسود داكن، يبعث رسالة عن صاحبته التي عاشت حياتها مثل تلك الخصلة البيضاء في المقدمة، متحررة من السواد، مستقلة، ترفض أن تتملك، علمت نفسها بنفسها دون مدارس أو أكاديميات هي الكاتبة الكبيرة فتحية العسال، التي وافتها المنية، صباح اليوم، بعد أن ساهمت في تكوين العقول من خلال كتابتها وأعمالها الأدبية. عاشت مِلكًا للحرية، رفضت أن تتخلى عن حقها في التعليم والمعرفة، بعد أن قرر والدها منعها عن المدرسة، بحجة أنها "مفتحة حبتين"، ولأن الظروف دائمًا ترضخ للأمر الواقع، قررت العسال تعليم نفسها بنفسها، وتعلمت كيف تقرأ وتكتب اسمها، فخضع لها والدها، وأصبح يعلمها الكتابة الصحيحة، وتركها تقرأ له أخبار "هتلر" من الجرائد، ما فتح لها آفاق السؤال والمعرفة. أول تجربة كتابة حقيقية لها كانت مع الخطابات الغرامية، من خلال جواب أرسلته إلى حبيبها الذي أصبح زوجها فيما بعد، وصفته بأنه "مليء بالأخطاء ونبش فراخ"، بعدها قررت أن تبدأ تعليمًا أكاديميًا لكنها لم تجد استحسان في تلك الفكرة، فكان أول كتاب تقرأه هو "عقلي وعقلك"، للكاتب سلامة موسى، ثم التقت بجبران خليل جبران، الذي شكل جزءًا كبيرًا من أفكارها التنويرية. رغم الحب الكبير الذي جمعها بزوجها، ورغم أنه أول من ساعدها في العلم والعمل، حيث تزوجا وهي في الرابعة عشر من عمرها، وسجنا سويًا، واشتركا في آرائهما السياسية، إلا أن الطير المحلق يرفض دائما القفص المزين، انفصلت فتحية العسال عن زوجها عندما شعرت بأنه يحجم حركتها ويحاول فرض آرائه عليها، وكتب زوجها الكاتب عبدالله الطوخي عن هذا الموقف قائلًا " فتحية طلبت الطلاق لإحساسها أنني أتملكها وهي لا تصلح لأن تكون مملوكة". فتحية العسال، التي ولدت في 20 فبراير 1930، تم اعتقالها ثلاث مرات بسبب آرائها عن تحرر المرأة، ومساعدة المهمشين والفقراء، وكذلك رأيها في اتفاقية كامب ديفيد التي عارضتها بقوة، ختانها ساعدها لتكوين شخصية صلبة، جريئة، تصارع أمواج العادات والتقاليد الشرقية مع المحافظة على أخلاقها كفتاة مصرية، نجاح حياتها العملية تجلى في ترأسها مجلس إدارة اتحاد الكتاب، وجمعية الكاتبات المصريات، وأمين عام اتحاد النساء التقدمي. كانت التلقائية تشغل حيزًا من حياة الكاتبة الكبيرة، وهو ما دفعها للعودة إلى زوجها مرة أخرى عقب ثلاث سنوات من الانفصال، كانت ساعتان فقط كفيلة بأن تعود العسال إلى زوجها، الذي قابلته صدفة في الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، بعد أن اكتشفا سويًا أن الحب لا يزال يتملكهما، هي الشخصية العاطفية التي غلبت رومانسيتها على كتابتها، تقول عن نفسها، "نعم أنا امرأة ولا أخجل من ذلك.. والمرأة تكتب برومانسية فائقة مطلقة". أول أديبة عربية تعرض كتابتها على المسرح هي فتحية العسال من خلال مسرحية "المرجيحة"، هذا بجانب تأليفها لتسع مسرحيات أخرى، منها، "لام ألف همزة لا" و"البين بين" و"بلا أقنعة"، وكتبت ما يزيد عن 55 مسلسلاً، منها، "رمانة الميزان"، و"حبال من الحرير"، و"لحظة صدق"، الذي حصل على جائزة أفضل مسلسل مصري عام 1975، ومن المقرر أن يعرض رمضان القادم، مسلسل "سجن النسا"، الذي يروي تجربتها في المعتقل. على خلفية تظاهرها ضد الأحكام العرفية، سجنت فتحية العسال في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1954، كما سجنت عدة مرات قبل حرب 1956، وفي عهد أنور السادات، دخلت العسال المعتقل بسبب معارضتها السياسية، والتطبيع الثقافي الذي حدث مع دولة إسرائيل، كما سجنت عام 1979، في مظاهرة ضد إسرائيل وأحرقت علمها، بعد أن خرجت من معرض الكتاب الذي خصص جناحًا لدولة إسرائيل، فأودعت سجن القناطر، وهي التجربة التي تمخض عنها كتاب "سجن النسا". استطاعت فتحية العسال أن تفتح طريقًا للنساء من خلال كتابتها وأفكارها، وتشجيعها لهم، جرأتها وخطواتها المليئة بالعمل والمثابرة والتعايش وسط مجتمع ذكوري، وضعها في المقدمة لتكون نموذجًا يحتذى به من خلال كتابتها المتعمقة في هذا المجال، ومن أشهر جملها، "الرجل الذي يقهر المرأة هو أصلاً رجل مقهور".