ما زلنا عند قصة الإخوان والرئاسة، تلك القصة الدامية التى ذهب بسببها آلاف الشباب إلى حيث مدينة التيه، تلك المدينة التى لا يعود منها من ذهب إليها إلا من شاء الله لهم النجاة، فالرئاسة هى نداهة الإخوان، والحكم هو دينهم، وحيثما لا تبحث الجماعة عن الحكم والرئاسة فهى بلا دين، فإذا ذهبت وبحثت وعاشت وعانت وسبّبت المعاناة، فهى فى عقيدتها قد أقامت الدين «أغاية الدين أن تصلوا إلى الحكمِ يا عُصبةٌ أبكت من فعلها مِصرَ! لا شىء أقبح من جهلٍ له سيفٌ يقوده خَرِفٌ للموت فى مِصرَ» ومصر ممنوعة من الصرف لمن يبيع دينه من أجل أن يحكمها، فلا نال ديناً ولا نال مِصرَ، ولا نال حتى مِصراً من الأمصار. تواطأت جماعة الإخوان مع «عبدالناصر»، ثم حاولت أن تمكر به لتحكم مصر، فأفشلها الله وأذهب ريحها، ومن بعده تواطأت مع «السادات» ثم مكرت به إلا أن الله حفظ مصر من كيدها، ثم ذهبت دولة «السادات» وجاءت الدولة الفرعونية المباركية، وكان الرجل فى عهده الأول يسمع كلام المستشارين الحاذقين، فأطلق سراح المعتقلين واستقبلهم فى قصر الرئاسة، ثم مد يده للإخوان كى يكونوا معه، يساعدونه ويشدون من أزره، والرئيس الجديد يرغب فى اكتساب شعبية كبيرة بعد أن ظهر للناس أثناء فترة وجوده كنائب للرئيس أنه على «قد حاله» محدود القدرات ضعيف التأثير، فظن الإخوان أنه غنيمة، فوقفوا معه وساعدوه فى مواجهة تنظيمات الجهاد والجماعة الإسلامية، وظلت العلاقة بينهما فى السنوات العشر الأوائل كالسمن على العسل، حتى إن الإخوان ذهبوا فى مجلس الشعب عام 1987 مع كبيرهم البرلمانى مأمون الهضيبى ليبايعوا «مبارك» لولاية ثانية، وهو الأمر الذى أغضب الشيخ الإخوانى عبدالستار فتح الله وجعله يستقيل من مكتب الإرشاد، وكانت اللقاءات الإخوانية مع النظام المباركى مستمرة ولذيذة مثل طعامة القشدة على العسل، فى هذه الفترة كان الدكتور رفعت المحجوب، رحمه الله، هو بوابة الاتفاقات الإخوانية المباركية، وكان هو من اتفق مع مأمون الهضيبى على أن يبايع الإخوان «مبارك»، وفى هذه الفترة أيضاً كانت اللقاءات المتعددة بين زكريا عزمى وقيادات الإخوان فى قصر عابدين، التى كان يتم الاتفاق فيها على ما يبهج خاطر «مبارك» ورجاله، وكانت مكافآت الدولة المباركية للإخوان ليس لها حصر فقد سمحوا لهم «بسياسة الضوء الأخضر» بالدخول للبرلمان والكتابة فى الصحف واعتلاء المنابر ودخول النقابات المهنية لأول مرة فى تاريخ الجماعة. إن نظام «مبارك» كان على صلة وثيقة بالمرشد الرابع حامد أبوالنصر، مرشد هذه الفترة، بل إن اختياره مرشداً كان مرضياً عنه من كل القيادات الأمنية، وكان فى تقديرهم أن ذلك الرجل الذى كان مطواعاً بين أنامل النظام سيحقق لهم ما يريدونه، ولم ينتهِ شهر العسل بين الإخوان و«مبارك» إلا بعد أن هرم المرشد وأصبح عاجزاً عن إدارة شئون الجماعة وترك الحبل على الغارب للحاج مصطفى مشهور يدير الجماعة كما يشاء، ويضع فيها أفكاره التى تلقاها من عبدالرحمن السندى صاحب التنظيم الخاص للجماعة، ومن خلال سيطرة مصطفى مشهور التى ظهرت للجميع، قام «مبارك» عام 1992 بشد أذن الإخوان شداً خفيفاً حينما تم حبس خيرت الشاطر وحسن مالك وآخرين عدة أشهر على ذمة قضية «سلسبيل» التى كشفت مصائب كانت الجماعة تخفيها، وفى نهاية عهد حامد أبوالنصر أرسل «مبارك» إلى الإخوان إنذاراً شديد اللهجة حينما قامت النيابة العامة باستدعاء المرشد حامد أبوالنصر لسؤاله عن بعض المنشورات التى كان بعض شباب الإخوان يوزعونها، وانتهى الأمر على سلام بعد وساطات من سليم العوا مع السيد عمر سليمان رحمهما الله، إلا أن الإخوان لم يستوعبوا الرسالة، فتم القبض على مجموعة كبيرة منهم عامى 1995، و1996، وإحالتهم إلى المحاكمة العسكرية، وأخذت العلاقة بين الطرفين منحى شديد الوعورة، إلا أن الإخوان ظلوا يحاولون التقرّب من «مبارك» بشتى الطرق، والرجل يصنع لهم أذناً من طين وأخرى من عجين، والمدهش أنه كان يستعملهم فى الوقت الذى يريده وبالطريقة التى يريدها. ولأن الإخوان إذا شبعوا اطمأنوا، وإذا جاعوا أنّوا فقد عاشوا مع «مبارك» فى فترة المرشد مصطفى مشهور بين الجوع والشبع، الاطمئنان والأنين، يكتب المرشد مصطفى مشهور مقالة فى جريدة «الشعب» عام 2000 يحيى فيها «موقف مبارك الوطنى» من ضرب محطة الكهرباء بلبنان، فيرسل له «مبارك» زكريا عزمى مبعوثاً ليطلب منه دخول الإخوان الانتخابات البرلمانية، وأنه سيسمح لهم بنجاح عدد معقول فيها، على أن ينسوا قضية النقابات المهنية التى كان متهماً فيها المرشد الحالى محمد بديع، ويأتى ملك الموت ومفرق الجماعات فيقبض روح المرشد مصطفى مشهور، ويأتى المرشد مأمون الهضيبى الذى لم يلبث فى الإرشادية كثيراً، ويأتى من بعده المرشد مهدى عاكف، الذى تم الاتفاق معه على صفقة عام 2005، وهى الصفقة التى أسفرت عن صدور بيان من الجماعة تدعو فيه الجماهير إلى عدم مقاطعة انتخابات الرئاسة حتى يكون المسلم إيجابياً! وكان أن دخل الإخوان بعد ذلك إلى عضوية البرلمان فرادى وجماعات. المرشد بديع هو الآخر ظل على سياسة الغزل العفيف ل«مبارك» حتى قبيل الثورة، فكلنا يذكر يوم أن قال المرشد «مبارك أبوالمصريين ونحن من أبنائه ونتمنى أن نجلس معه»، ولكن ذهبت دولة «مبارك» كما تذهب كل الدول، ونظر الإخوان فإذا دولة مقبلة، وكل القوى السياسية مفتتة خائرة ضعيفة لا تستطيع حراكاً، وجاء صك الموافقة من أمريكا، الآن آن لكم يا جماعة الإخوان أن تقفزوا للحكم الذى هو دينكم ودنياكم، وفى سبيل الحكم يهون كل شىء، بل تهون مصر نفسها، فما هى عندهم إلا مصر من الأمصار.