وجاء هادم اللذات ومفرق الجماعات، الموت الذى لا بد أن يصيب كل حى، ومات عبدالناصر عام 1970 وذهبت دولة الرئيس عبدالناصر، كما تذهب كل الدول، وأصبحت فى ذمة التاريخ، وخرجت إلى الدنيا دولة الرئيس أنور السادات، وكما تعود الحكام فى بلادنا حين يبدأون فإنهم يبحثون عن الجماهير، ويبحثون عن راية لهم يرفعونها تختلف عن راية من سبقهم، هكذا هم الفراعين، يمحون إنجازات من سبقهم ويقيمون مجدهم وكأنه لم يكن غيرهم، ولأن السادات كان أحد الفراعين الكبار الذين حكموا مصر فكان لا بد أن يحذو حذوهم، والفرعون الجديد حق له أن يبحث عن جمهور يقف معه ويؤيده ويقدم مشروعه للشعب، وليس هناك أمام السادات أفضل من جماعة الإخوان التى كتبت على مقرها الافتراضى «تحت الطلب» فقد كان الإخوان وقت تولى السادات الحكم فى السجون، وبعد مفاوضات مع حسن الهضيبى وعمر التلمسانى، بوساطة «عثمان أحمد عثمان»، تم الإفراج عن الإخوان وفقاً لجدول زمنى، وكان الهضيبى أول من تم الإفراج عنهم وتلاه التلمسانى، وبدأت العلاقة الحميمة بينهما تأخذ مكانها فى التاريخ، كما أخذت تؤثر فى الجغرافيا، فقد أطلق السادات على دولته دولة العلم والإيمان ليعطى انطباعاً سلبياً بأن دولة عبدالناصر كانت دولة الجهل والكفران، وفى دولة الإيمان التى يتولاها «الرئيس المؤمن» انطلقت جحافل الإخوان المؤمنين ضحية عبدالناصر إلى الجامعات والجوامع والجمعيات، وما كان السادات ليستطيع مواجهة الناصريين بغير الاستعانة بالقوة الجماهيرية للإخوان، وضع تحت العبارة السابقة خطاً، فجذبت الجماعة المؤمنة عدداً كبيراً من الشباب الذى كان يبحث عن شخصيته وهويته، وتحدثوا من فوق المنابر فكفَّروا عبدالناصر ودولته؛ لأنه ولأنها اختلف واختلفت مع الإخوان وحبستهم وأعدمت بعضهم أثناء الصراع السياسى بينهما، وذهبوا إلى الجمعية الشرعية حيث الرجل الطيب الحاج «عبداللطيف المشتهرى»، فأصبحت مثواهم حتى حين، ومن خلال مساجدها تحركوا فى كل ربوع مصر، كل ذلك كان قد تم بالاتفاق والسماح من الرئيس المؤمن أنور السادات، فهو يرغب فى هدم دولة عبدالناصر ليبنى دولته هو على أساس مختلف، وظل الود متصلاً بين الإخوان والسادات، وعملوا معه تحت سياسة الضوء الأخضر، هو يسمح لهم بالعمل، وهم يصدرون مجلتهم «الدعوة» يهاجمون فيها عبدالناصر باتفاق مع السادات ويتهمونه فى دينه ويشيعون حوله العديد من الشائعات، فتارة يشيعون أن والدة عبدالناصر يهودية الديانة! وتارة يشيعون أنه تقابل أثناء حرب 1948 مع بعض قادة اليهود فى الفالوجة واتفقوا معه على أن يساعدوه فى الوصول لحكم مصر بشرط القضاء على الإسلام! وتارة أخرى يدعون أن عبدالناصر طلب من شمس بدران وصلاح نصر عام 1965 إعداد خطة للقضاء على الإسلام على أن تكون بداية الخطة هى القضاء على الإخوان باعتبار أنهم يمثلون الإسلام ويدافعون عنه، فكانت قضية تنظيم سيد قطب، شيخ مشايخ الإخوان، وللتأثير على عقول السذج يكتبون أن المجارى انفجرت فى المنطقة القريبة من قبر عبدالناصر فغرق جثمانه فى مياه المجارى! ويصدق السذج تلك الشائعات فيتصورون أن هذا هو جزاء من يقف ضد هؤلاء الصديقين الأبرار، وبركاتك يا سيدنا الشيخ التلمسانى، شيخ الطريقة الإخوانية. وحين طلب منهم السادات أن ينشئوا حزباً اشترط عليهم أن يختاروا اسماً آخر غير اسم «الإخوان المسلمون» وأن لا يدخل معهم فى الحزب كل أفراد النظام الخاص، وعلى رأسهم الحاج مصطفى مشهور والحاج أحمد حسنين وغيرهما، ولكن الإخوان رفضوا الشروط، بل إن قرارهم أيضاً كان مبنياً على سند من أن تغيير اسم الإخوان هو الموت ذاته، وقال وقتها الحاج مصطفى مشهور والدكتور أحمد الملط «ما كنا لنغير ما وضعه حسن البنا». وبعد زيارة السادات لإسرائيل وما تلا ذلك من توابع أهمها اتفاقية السلام، تعكر الماء بين السادات والإخوان، فالإخوان تعاملوا مع السادات على أنهم أصحاب فضل عليه، فهم الذين مهدوا له الطريق وآزروه ووقفوا معه فى مواجهة رجال عبدالناصر، فظنوا أنهم بذلك أمناء سر الحكم، وهذه الزيارة كانت صدمة لكل المصريين والعرب، والسادات صاحب سياسة الصدمات ما كان له أن يستأذن من أحد فى أمر أضمره فى نفسه حتى ولو كانوا أولى قربى، كما أنه لم يكن يعرف ما يسمى بالحوار والنقاش والأخذ والرد، ومن تاريخ هذه الزيارة أخذت العلاقة الرومانسية الحميمة تتحول إلى عداء وترويع، فهم يناصبونه العداء ويدعمون سراً الجماعات الإسلامية الوليدة التى أخذت طريق السلاح، وهو يروعهم فى خطبه، وأخذ التلاسن العلنى بين الطرفين يزداد حتى قال البعض تهكماً على هذا الشقاق «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا» ولكن جمرة الخلافات اشتعلت وتمادت، فكانت الخاتمة يوم أن أصدر السادات قرارات اعتقالات سبتمبر، التى أخذ فيها من كل قبيلة رجالاً، وكان من قبيلة الإخوان العدد الأكبر من المعتقلين. وذات يوم ثارت الحركة المتأسلمة المسلحة «الجهاد» المدعومة من الإخوان، التى كان أعضاؤها فى بداياتهم ينتمون لهذا التنظيم الإخوانى العتيق، فكان أن اغتالت السادات بين جنوده، وحين كان الجالسون فى المنصة يظنون أن اللحظات التى تمر بهم سرمدية لا نهاية لها كانت أفواه الإخوان وغيرهم فى السجون تكبر لله؛ الله أكبر الله أكبر، لأن من حبسهم أخذه الموت الذى يأخذ كل حى، وما كان الله لينتصر لمن يشمتون فى الموت، ويحترفون فحش القول، ويكذبون بين الحين والحين، ولكن يمدهم فى طغيانهم يعمهون.