حكاية ترك يوسف إدريس للطب، واختياره للفن والكتابة لها قصة وأسباب يحكى هو جزءاً منها، ويحكى أصدقاؤه الجزء الآخر، فى حديث له مع المنسى قنديل، قال: لقد تركت الطب، لأننى أحسست أننى قد بدأت أتعود على الألم الإنسانى لم أعد أهتز أمامه، وأحسست بأن هذا سوف يقتلنى ككاتب مهمته الأساسية أن يقاوم كل مصادر الألم، وأعتقد أن هناك أسباباً أخرى كثيرة، من أهمها قيود المهنة، فهو قد ترك المهنة إلى اللامهنة، فهو القائل: «الكتابة ليست مهنة إلا إذا كان الاستشهاد فى سبيل الحقيقة مهنة أو التضحية مهنة». والمدهش أن يوسف إدريس فى تلك الفترة وأثناء دراسته الطبية، وبرغم انخراطه فى العمل السياسى، فإنه كان أزهد فرد فى شلة المثقفين زملائه، وأقلهم اهتماماً واطلاعاً على عيون الأدب العالمى والفكر الإنسانى، ولكنه كان أكثرهم اطلاعاً على ملامح البشر وقراءة لخريطة نفوسهم بكل تضاريسها وتفاصيلها، ولذلك لم يكن غريباً أن تندهش هيئة تحرير المجلة التى تشرف على المسابقة والمكونة من صلاح حافظ، ومصطفى محمود، ومحمد يسرى أحمد وكانت أنشودة الغرباء هى أولى القصص وأولى الصدمات أيضاً، فالفنان داخل يوسف إدريس جعل الجميع يتساءلون كيف حدث ومتى؟، وأين كان مختفياً ذلك المارد المرعب الذى يكتب القصة وكأنه يحكى حدوتة أو كأنه يتنفس أو كأنه يصنع فخاً لقارئ حذر حتماً سيسقط فيه وإن طال الأوان وتضخم الحذر. أما لماذا اختار القصة القصيرة بالذات؟، أعتقد أنها علامة استفهام محورية، فالرجل كان محدد الهدف منذ البداية، لم يكتب أبيات شعر متناثرة هنا وهناك كمعظم الأدباء ولم يحاول طرح أفكار فلسفية أو نشر خطب سياسية، ولكنه اختزل هذا وذاك فى ذلك الشكل الساحر المسمى القصة القصيرة، ولماذا هذا الشكل بالذات؟، لنترك يوسف إدريس يجيب عن ذلك بنفسه، يقول «إدريس»: «اخترتها لأننى أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغر بحراً فى قطرة، وأن أمرر جملاً من ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إننى كالحاوى الذى يملك حبلاً طوله نصف متر، ولكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذى يريد، القصة القصيرة طريقتى فى التفكير ووسيلتى لفهم نفسى، والإطار الذى أرى العالم من خلاله، إنه الإطار الذى وجدنى ولم أجده»، يقول أيضاً إن القصة القصيرة هى أصعب شكل أدبى وأسهل شكل أدبى فى وقت واحد، إنه شكل سهل لا بد أن يمارسه كل شخص ولو فى جانبه الشفوى ولكنه فن صعب، يحتاج إلى قدرة للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، والتعبير عنها فى كلمات، لقد اخترع بيكاسو ذات مرة طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفى بعد دقيقة، هذه الدقيقة هى القصة القصيرة، هى اقتناصى لحظة كشف خارقة». ولكن السؤال الأكثر إدهاشاً هو: لماذا ترك يوسف إدريس كتابة القصة القصيرة، تلك المعشوقة التى امتلكت كيانه والتصقت بكرات دمه الحمراء؟، السؤال فرض نفسه على كل من له أدنى اهتمام بالثقافة والأدب، أحياناً كان السؤال يصدر عن حب، وأحياناً أخرى عن شماتة، وغالباً ما كان ممزوجاً بالفرحة، فها هى الشمس التى أحرقت وهمشت كل من اقترب منها، اقتربت لحظة غروبها، غروب تلك الموهبة المرعبة التى ظلمت بإشعاعها الذرى جيلاً، بل أجيالاً، من القصاصين، وقع نصفهم فى فخ المقارنة، والنصف الآخر فى هوة التقليد، ظل «إدريس» صائماً وصامتاً، منذ سنة 1971 وحتى سنة 1981 عن كتابة القصة القصيرة، حتى خرج علينا ب«نيويورك 80» والتى احتار النقاد فى تصنيفها، هل هى قصة، أم رواية، أم مشروع مسرحية، أم مجرد عمل ذهنى صرف، يطرح فيه أفكاراً لم تكتمل صياغتها الفنية بعد؟، كان السؤال مؤلماً ويحمل معانى ودلالات قاسية وجارحة، فالسؤال يتبعه بالضرورة سؤال آخر، وهو: هل أفلس يوسف إدريس فنياً منذ السبعينات؟، وهل آن له أن يعلن كما أعلن من قبله يحيى حقى اعتزاله للكتابة، لأنه لم يعد لديه ما يضيفه؟، وهل تاريخ وفاة يوسف إدريس الفعلى هو بداية السبعينات بعد مجموعته «بيت من لحم»، وليس بداية التسعينات عندما فارقنا فى أول أغسطس 1991؟، وبالطبع كان لا بد ليوسف إدريس أن يكسر حاجز الصمت، فنشر مقاله القنبلة بعنوان: «يموت الزمار» فى 17 أبريل 1981، والذى قرر أن يجيب فيه وبأسلوب لا يقل فنية وجرأة عن أسلوب قصصه القصيرة، وكأنه يقول أنا هنا ما زلت يوسف إدريس، فيصرخ على الورق، ويقول: «أى شىء إلا أن أمسك القلم مرة أخرى وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير وإنسان يزداد بالتغيير سوءاً، وثورات ليت بعضها ما قام»، إنه يعلن هنا كفره بالكتابة ككل وليس فقط بالقصة القصيرة والتى برر هجرها بأنه لن يرضى بدور القصاص وبيته يحترق من حوله، فلا بد من أن يهب واقفاً لإطفاء ذلك الحريق الذى شب فى جدران المجتمع، وبالطبع كان هذا الإنقاذ هو الكتابة ولكنه فى هذا المقال يقرر أن الكتابة أصبحت غير ذات جدوى، ويصرخ قائلاً: «لقد كان حلمى بالكتابة كحلمى بالمعجزة القادرة على شفاء أى داء، وفى عمرى أنا سأرى اختفاء الحفاء وعمومية الكساء وزوال الحاجة، كانت واحة العمر ألجأ إليها كلما نضب معين الخيال وأتزود منها وبها بالقدرة على مواصلة اللهاث وكأننى سأصحو فى الغد لأجد الصباح فجراً ليس فجر يوم ولكن فجر عصر، عصر كامل تام يولد فيه الإنسان، يحب بكل فهم وعمق وظمأ الحب، ويعيش وروعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراءها قطرة، ولكل قطرة طعم، و لكل لحظة زمن تمر أشواق وصهللة ومعان».