فى ستينات القرن الماضى، التزمت مصر بمساندة حركات التحرر الوطنى فى العالم العربى وأفريقيا، ثم ما لبثت مصر أن مدت هذا الالتزام إلى دول العالم الثالث أجمع وصولاً إلى أمريكا اللاتينية، والواضح من عبر هذه الأيام أن ما غرسه نظام «عبدالناصر» عندما شجَّع حركات التحرر الوطنى على النهوض ضد الاستعمار لأن العدو واحد والمعركة واحدة، حصدته مصر فى صورة دعم عالمى هائل رد العدوان الثلاثى على أعقابه، ووسع جبهة النضال العالمى ضد الدول المعتدية الثلاث، ليتحقق فى النهاية سقوط الاستعمار القديم ونهاية عصر الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس. وأظن أن التاريخ يعيد دورته فى عصرنا الراهن فى صورة أخرى، تفرض على مصر، التى تواجه خطر الإرهاب للمرة الثانية خلال عقود ثلاثة، توسيع نطاق مواجهتها مع الإرهاب لتشمل حصاره وتجفيف منابعه وهزيمة أفكاره واقتلاع جذوره، ليس داخل حدود مصر والعالم العربى الذى تتعرض معظم دوله لتهديدات الإرهاب، لتشمل المواجهة نطاق القارة الأفريقية أيضاً؛ لأن المعركة واحدة والعدو واحد، يتمثل فى تحالف منظمات الإرهاب التى تمد نشاطها فى جبهة عريضة تزداد عمقاً واتساعاً، تمتد من أفغانستان إلى الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، وتتشكل من منظمات عديدة تتغير أسماؤها وعناوينها، لكن معظمها إن لم يكن جميعها ينتمى إلى فكر «القاعدة»! الأمر الذى يفرض على مصر ضرورة توسيع نطاق المجابهة مع تنظيم القاعدة، ليس فقط لأن العدو واحد والمعركة واحدة ولكن لأن «القاعدة» تضع مصر ضمن أول أهدافها الأساسية والمهمة، فضلاً عن أن جميع منظمات الإرهاب التى تعمل فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنشط فى إطار خطة واحدة تستهدف تقويض أمن واستقرار دول هذه المنطقة، كما تستهدف تصدير القلاقل إلى عمق القارة الأفريقية بدعوى الجهاد ضد الجاهلية، لكنها مع الأسف تنتج حروبا كريهة داخل البلد الواحد، مثالها الأخطر ما حدث داخل السودان؛ لأنها تشجع الحركات الانفصالية وتزيد من عمق الفجوة بين العرب والأفارقة فى مناطق التخوم وسط القارة التى كانت جسراً للتعاون والتلاقح بين الثقافتين العربية والزنجية. وما من شك أن محاولات بعض منظمات الإرهاب اختراق عدد من دول وسط القارة الأفريقية التى تتعدد أعراقها ودياناتها، وتضم المسلمين والمسيحيين والوثنيين، يتعايشون معاً وينظمون مصالحهم فى إطار تقاليد قديمة (نيجيريا وتشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وكينيا)، تسببت فى تمزيق وحدة هذه البلاد، وغيبت الثقة المتبادلة بين شمالها المسلم وجنوبها الزنجى المسيحى أو الوثنى، وأعطت فرصاً هائلة لقوى الغرب كى تعزز حواجز التفرقة بين شمال القارة العربى وجنوبها الزنجى، رغم عمق الروابط التاريخية التى نشطت مصر والسودان والجزائر والمغرب من أجل تعزيزها على امتداد عصور طويلة، اتسمت بالسماحة وأخوة النضال المشترك ضد الاستعمار والاستغلال، اللذين كانا يشكلان العدو المشترك للعرب والأفارقة على امتداد القرن العشرين! وفى نيجيريا، أكبر دولة إسلامية فى القارة، تنشط بقوة جماعة بوكو حرام الإرهابية، تتمركز فى شمال البلاد وتشن غاراتها على القبائل والأسر المسيحية، تحرق المدن والقرى والبيوت، وتختطف النساء والأطفال، وتغلق مدارس البنات، وتمارس باسم الإسلام أقبح جرائم الإرهاب وأشدها قسوة وعنصرية، آخرها اختطاف أكثر من 300 تلميذة من مدرسة ثانوية فى مدينة شيبوك شمال نيجيريا، تهدد ببيعهن سبايا فى الأسواق أو تزويجهن لمن يرغب لقاء 12 دولاراً للفتاة أو قتلهن، إن لم تقبل الحكومة النيجيرية الإفراج عن عدد من مقاتلى «بوكو حرام» تم القبض عليهم فى جرائم سابقة، الأمر الذى أثار غضب العالم أجمع ودفعه إلى ممارسة ضغوط متزايدة على الحكومة النيجيرية التى التزمت الصمت لأكثر من شهر بعد اختطاف الفتيات ورفضت أية معونات دولية رغم عجزها الفادح عن تحرير الفتيات! وتشكل «بوكو حرام» واحدة من المنظمات الإرهابية المتحالفة مع منظمات الإرهاب فى شمال أفريقيا، يتبادلون المعلومات والمقاتلين وينسقون خططهم فى عمل مشترك وينتمون جميعاً لفكر تنظيم القاعدة. ورغم أن الأزهر الشريف أولى المؤسسات الدينية التى أعلنت رفضها لأفكار وجرائم جماعة «بوكو حرام»، فإن هذا الموقف لم يترجم نفسه بوضوح فى عمل مصرى مؤسسى تشارك فيه الدولة والمجتمع المدنى، بما فى ذلك تنظيمات المرأة المصرية ومجلسها القومى، يدين جرائم «بوكو حرام» ويؤكد رفضه لعمليات اختطاف الفتيات المسيحيات، ويفضح زيف هذه الجماعة الإرهابية وتناقض مواقفها مع صحيح الإسلام.. وأظن أن مهمة مصر أكبر من مجرد صدور بيان إدانة؛ لأن المطلوب مساهمة مصرية معلنة وواضحة تحاصر «بوكو حرام» داخل نيجيريا، وتنبه الغالبية المسلمة هناك إلى خطورة هذا النهج على وحدة البلاد وأمنها وعلى صورة الإسلام الذى يتعرض لحملة كراهية ضارية داخل نيجيريا وخارجها بسبب جرائم «بوكو حرام».. والأمر المؤكد أن الأزهر بما له من سمعة واسعة كمنظمة إسلامية معتدلة يمكن أن يكون له تأثيره العميق على الرأى العام داخل نيجيريا ويستطيع أن يلعب دوراً مهماً فى كشف خطورة هذه المنظمة وزيف أفكارها، ويحصن الأغلبية المسلمة من مخاطر تأثيرها على الأجيال الجديدة التى تعانى العوز والفقر والبطالة وتفتقد الأمل فى إصلاح أحوالها، وربما ترى فى اللجوء إلى هذه المنظمات وسيلة لتأكيد ذاتها! وما من شك أن معركة مصر مع الإرهاب فى الداخل تلزمها أن تمد جبهة المواجهة لتشمل العالم العربى الذى تتعرض معظم دوله لخطر الإرهاب، يتخفى تحت رداء جماعة الإخوان المسلمين التى سرعان ما تكشف عن وجهها القبيح بعد أن تمكنت من القفز على السلطة؛ لتمد الحبال مع منظمات الإرهاب، بما فى ذلك «القاعدة» وجماعات السلفية الجهادية كما فعلت فى مصر، يشكلون جميعاً جبهة واحدة ضد مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى التى ترفض وتعارض حكم هذه الجماعات الفاشية.. وأظن أيضاً أن القول نفسه يصدق على أفريقيا، خاصة أن معظم جماعات الإرهاب العاملة هناك، إن لم يكن جميعها، تنتمى لفكر واحد أول أهدافه وأهمها تقويض أمن مصر واستقرارها.. وربما تكون مساعدة مصر لدول أفريقيا فى حربها على الإرهاب هى أقصر الطرق لتوثيق علاقات صحيحة وقوية مع دول القارة، خاصة فى مناطق التخوم التى تجمع بين العرب والأفارقة وتعانى صراعات داخلية تصل إلى حافة الحرب الأهلية، كما تؤدى إلى تصحيح صورة الإسلام فى عيون الأفارقة التى أساءت إليها جرائم «بوكو حرام» وغيرها من جماعات الإرهاب.