الكاتب الراحل «عباس محمود العقاد» نموذج للكاتب الجاد على مستوى الموضوع، الصارم على مستوى المنهج، شديد الإيمان والتديّن على مستوى الطرح، كثير الخشونة على مستوى اللغة التى كان ينتقيها للتعبير عن أفكاره، إلى الحد الذى كان يدفع بعض قرائه فى أحيان إلى وصفه ب«التعقيد»، وأن له نصيباً من اسمه: «العقاد». تناول الكاتب الكبير فيلم «حلاوة روح» منذ سنين طويلة.. تخيّل!. أقول ذلك على هامش الأزمة التى أثارها الفيلم، والتى كان آخر تفاعلاتها اجتماع رئيس الوزراء بمجموعة من الفنانين لمناقشة القرار الذى اتخذه بإيقاف عرض الفيلم. كان «العقاد» إذا سمع أحداً ينصح غيره بعدم قراءة كتاب الكاتب «الفلانى» وقراءة كتاب الكاتب «العلانى»، طالبه بالتريّث والتفكير فى الأمر، ويردد أن من يوصى بقراءة كتب معينة مثله كمثل الطبيب الذى يتعامل مع مجموعة من المرضى، فيصف لهم ما يجب أن يأكلوه وما يتوجب عليهم الابتعاد عنه من صنوف الأطعمة. كان «العقاد» يرفض الوصاية على العقل بدعوى حمايته. فالعقل السليم يستطيع أن يهضم كل الأفكار ويستوعبها فيستفيد من أحسنها ويلفظ السيئ والضار منها بالطرق الطبيعية، تماماً مثل المعدة السليمة التى تقوى على تمييز المفيد من غير المفيد فيما يدخلها من أطعمة. لماذا يتعامل البعض مع الناس على أنهم مجموعة من المرضى العقليين الذين يجب أن نحدد لهم ما يتعرّضون له من أفكار حتى لو بلغت مبلغ التفاهة والتسطح؟! لم يكن «العقاد» يجد مانعاً فى أن يتعرّض لأفكار تافهة داخل كتاب تافه. فقد سُئل العملاق الكبير ذات يوم: «هل تقرأ الكتاب التافه؟»، فأجاب: نعم.. أقرأ الكتاب التافه لأعرف ما هى التفاهة، وكيف يتشكل المضمون التافه، وكيف يفكر الكاتب التافه، كذلك كان يفكر «العقاد»، لأنه ببساطة كان يحيا بعقل حر طليق يفكر كيفما شاء، ويذهب فى أفكاره كل مذهب، قناعة منه أن العقل حر، وأن الفكر يجب ألا تحده حدود، حتى لو تجاوز فى أحوال دوائره الجدية وانطلق إلى مستنقع التفاهة! هناك من يتبنّى وجهة نظر نقيضة لوجهة النظر التى تتأسس على فكرة الانفتاح العقلى التى يؤمن بها «العقاد». وهى وجهة نظر لها وجاهتها أيضاً حين ترفض وجود نص لا يراعى الآداب والأخلاقيات العامة، ويسلط الضوء على سلوكيات شاذة أو مستهجنة اجتماعياً، وأن الحرية لا بد أن ترتكن إلى المسئولية. وهو كلام منطقى لا غبار عليه ولكن يخشى منه أن يتم الاعتماد عليه فى مصادرة ما لا يصح مصادرته. الشاهد وسط هذا الجدل أن المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء، اتخذ قرار إيقاف الفيلم بدرجة عالية من الحسم والصرامة، وإذا كنت أختلف معه على القرار، فإنى أحييه على المنهج (الحسم والصرامة). ليت رئيس الوزراء يطبّق هذا المنهج فى التعامل مع القضايا والمشكلات الكثيرة التى تتزاحم داخل أروقة الوزارات، فكما نصون أخلاقيات المجتمع، من المهم أيضاً أن نحمى حقوقه المعيشية وأمنه بنفس الدرجة من الحسم والصرامة. لا يكفى أن نأتى فى «هيفاء» ونتصدر!