ماذا؟ مذبحة؟ وفى أسوان؟! النوبيون قُتِلوا وقَتَلوا؟! لا أصدق! لا، عليك أن تصدق، فإن عُرِف السبب بَطُلَ العجب. أتدافع عن مذبحة؟ لا. بل أقول مقولة للأديب إحسان عبدالقدوس مع تغيير كلمة واحدة (لا تسألوا النوبة، اسألوا الظروف). النوبة المصرية من أسوان جنوباً لحدود السودان، على امتداد 365 كيلومتراً، لم تُسجل جريمة قتل واحدة. النوبيون مشهورون بالسلام والسلاسة والخلق الطيب، فما الذى دفعهم للقتل؟ وهل تنفى هذه الحادثة أنهم ما زالوا أهل السلام والنيل؟ هل يلغى الاستثناء القاعدة؟ الشعب المصرى وسطى فى كل شىء. نزل الميادين بالملايين التى تعدت الثلاثين، ولم يحطم زجاج محل واحد، ولم يعتد على إنسى واحد، وهذا مشهد حضارى عظيم أبهر العالم، الشعب المصرى طوال تاريخه كان مشهوراً بكراهة سفك الدماء، فهل نحكم على شعبنا عموماً بأنه همجى نتيجة لبعض الحوادث الدموية المتوالية، خلال السنوات القليلة الماضية؟ إن كان هذا فذاك. أناس تعرضوا فى قرن واحد لأربعة تهجيرات. ثلاثة منها أغرقت أراضيهم الزراعية؛ فطردوا لأعالى الجبال، هم مزارعون وضاعت زراعاتهم؛ فغرقوا فى الفقر. تشتتوا. أم فى القرية الجرداء مع صغارها، زوجها فى مدينة شمالية، وأخوها فى مدينة أخرى. يكبر ابنها، فيهاجر ليجد عملاً، فيزداد الشتات ليكون شتاتاً مُركباً. ثم تهجير السد العالى الذى اجتثهم من جذورهم وألقى بهم فى الصحراء. طالب النوبيون أن يتوطنوا أعلى الهضبة النوبية، حيث الأراضى القابلة للزراعة، وحيث ستنقل المعابد النوبية، فيقال لهم: من يتكلم فالمعتقل ينتظره. لكن اطمئنوا، سننقلكم بجوار النيل. فى بيوت برحة ومياه نظيفة وأرض زراعية ممتازة. سوف يتجمع شملكم مرة أخرى. وبسبب الجوع والشتات توافق نسبة من النوبيين مضطرة، فينقلون فى مراكب مخصصة للحيوانات، ويلقى بهم فى صحراء تبعد عن النيل بكيلومترات، ويُحشرون فى جحور أسمنتية، فيصاب الكبار بالصدمة ويموتون فى حسرتهم. ويموت الرضّع نتيجة للمياه الملوثة، ويصير اسم المقبرة (مقبرة الروضة). ثم فقر فوق فقر فوق فقر. الشتات يتضاعف. وفى مدن الشمال يكون الأسمر/الأسود مسخرة للعنصريين والجهلة. البعض حتى الآن لا يصدق أن تهجير النوبيين مقصود، وأن ذلك تم بقصد الإذابة. تأتى الحكومة فى أوائل القرن الواحد والعشرين، وتعلن مشروع بناء 18 قرية حول بحيرة النوبة باسم بشائر الخير، من أول بشائر الخير 1 حتى بشائر الخير 18. أى لا أسماء نوبية. وكل قرية بمائة مسكن وخمسمائة فدان. تمنح بدون مقابل للمواطنين المصريين، من الدلتا للصعيد، الشرط الخفى ألا يكون المواطن نوبياً! بالفعل تم بناء ثلاث قرى سكنها غير النوبيين فى المنطقة النوبية التى تم طرد النوبيين منها! ولما ثرنا تم إيقاف المشروع. القرية الثالثة بنيت فى مكان قريتى (توماس وعافية)، وللعلم المحزن، شباب قريتى قدموا 333 طلباً لنيل المساكن فى مكان قريتهم العالى، فلم تعط الدولة ولو مسكناً واحداً لأهالى القرية النوبية! واسمعوا الآتى: قبل ثورة 25 يناير 2011 حصلنا على وثيقة من مكتب محافظ أسوان، توضح أن الحكومة تمنح الأراضى الخصبة، حول البحيرة النوبية، لبعض من يدعون أنهم رجال أعمال. أحدهم حصل على ثلاثة وثمانين ألف فدان. والثانى على عشرين ألف فدان، والثالث على عشرة آلاف.. إلخ. سيباع الموطن النوبى للغير بتراب الفلوس. ولما غضبنا وأعلنا الوثيقة، قال المحافظ وقتها: هذه وثيقة كاذبة! لكن بعد الثورة وتنحى مبارك، أعلن نفس المحافظ إلغاء تخصيص مائتين وثلاثين ألف فدان كانت ستمنح للفاسدين، بدلاً من إعادة النوبيين إليها!. تراكمات ظلم على قلوب وعقول النوبيين، خاصة الشباب. هُجّرَ النوبيون وألقى بهم بين قرى تحمل السلاح، والنوبيون لا يحملون السلاح فقط، بل يكرهون السلاح. فتعدى أهالى تلك المناطق علينا بالسلاح من بداية تهجيرنا. وحتى فى مدينة أسوان، خاصة بعد الثورة، السلاح فى كل يد ما عدا اليد النوبية. ولما زاد الذل علينا قال الشباب لكبار السن لم يعد لدينا صبر على الإهانات، أسلوب السِلم مع عصابات البلطحة لم يعد مجدياً، فظهرت منذ سنتين بأسوان دعوة نوبية باسم (كَتالة) أى القتال، لكن لم يهتم بها أحد. وفى السنوات الأربع السابقة، والفوضى تزداد، خاصة فى أسوان، اعتدت عصابات المخدرات على النوبيين مرات عدّة، والشرطة تترك المعتدى يفعل ما يحلو له. هنا تأكد للنوبيين أنه لا حماية لهم لا بالقانون ولا بالشرطة، فقرروا اللجوء للسلاح، فحدثت المجزرة الأخيرة، شجار بين صبية، أتى كبار القبيلة غير النوبية بالسلاح، وقتلوا ثلاثة رجال وامرأة من النوبيين. مر يوم ولم تتدخل الشرطة، فردت النوبة بنفس ما فعل فيهم، السلاح بالسلاح والدم بالدم، فلم يعد لهم صبر على احتمال الإذلال. هنا قامت مصر على قدم وساق «مذبهلين» صائحين: النوبيون استخدموا السلاح وقاموا بالقتل! ينسى بعضهم أن ما حدث من النوبيين مجرد رد فعل لا فعل، فلمَ لا يلومون صاحب الفعل أولاً؟ لمَ لا يلومون الإذلال المستمر منذ قرن للنوبيين؟ لماذا هُجّر النوبيون وكان بالإمكان تصعيدهم فى مكانهم؟ لماذا لم تحموا النوبيين من عصابات المخدرات وغيرها؟ لماذا لم تستمعوا للنوبيين واستمرت السخريات منهم؟ هل هذا دفاع عن القتل؟ لا. فليكن القانون فوق الجميع. وعلى كل مفزوع أن يدعو لرفع ظلم التهجيرات عن النوبيين، ويساعدهم على تحقيق حق العودة النوبية، لنعمل جميعاً على رفع الظلم عن جميع المصريين.