حضرت درسا فى المسجد فى أعقاب إحدى الصلوات، ظننته درسا دينيا، فوجدته سياسيا حزبيا مدافعا عن أحد المرشحين المحسوبين على التيار المحافظ دينيا وعنوانه: «لماذا فلان رئيسا؟».. وبغض النظر عن موقفى الشخصى واعتراضى على تصوير أن التصويت لفلان هو الأقرب إلى رضا الله، ما حدث بعد أن انتهى المتحدثان من كلامهما، كان تحديدا ما جعلنى أفهم لماذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع فى المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالةً، فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك» (صححه الألبانى). وزاد مسلم رحمه الله: «فإن المساجد لم تُبنَ لهذا؟».. والقضية أن البعض قد حولوا المساجد (وقطعا الكنائس، ولكن هذا موضوع نقاش آخر قادم) إلى ساحة للدعاية الانتخابية والحشد التصويتى. وظننت أن ما حدث قبل الاستفتاء استثناء لن يتكرر. ولكن ها هو يتكرر مع كل انتخابات. انقسم الناس فى المسجد انقساما مزعجا بين مؤيد ومعارض، وتعالت الأصوات لدرجة أننى وجدت أناسا وقد خرجوا عن سابق عهدى بهم من هدوء وسكينة إلى تناحر وصراع. البعض يناقش مبدأ السماح للمرشحين بعمل الدعاية داخل المسجد، والبعض يعترض على هذا المرشح تحديدا، والبعض اعترض على التيار المحافظ دينيا برمته. المسجد كان دائما ساحة للتداول بين المسلمين فى الشئون العامة (مثل ترسيخ مفاهيم الأخوة فى الدين، الإخلاص فى العمل، شروط الحاكم الصالح، أهمية المشاركة فى الحياة العامة)، لكنه قطعا لم يكن ساحة للتجارة بما يترتب عليه من مكاسب شخصية (بدليل كلام الرسول المشار إليه)، وقطعا ليس للتسويق السياسى لأن «المساجد لم تُبنَ لهذا». هذا لا يعنى أن نحجر على حق إمام المسجد أو القسيس أن تكون له تفضيلاته السياسية الخاصة به ويجوز أن يجاهر بها للأصدقاء والمعارف ولكن ليس داخل المسجد أو الكنيسة. المسجد والكنيسة لجميع الناس بكل انتماءاتهم السياسية والكروية والطبقية. دور العبادة للجميع وليست لممارسة التجارة السياسية «فإن المساجد لم تُبنَ لهذا». لا ينبغى أن يكون ازدهار حياة حزبية سليمة فى مصر على حساب حياة دينية سليمة. لا نريد مسجدا سلفيا وآخر إخوانيا وثالث وفديا. هذه المساجد لله، فلا ينبغى أن ندعو داخلها مع الله أحدا حتى لو كنا نظن أننا نفعل ذلك استجابة لأمر إلهى. دور العبادة مكان للسكينة والهدوء والتذكرة الواعية بمصالح الأمة كاملة وواجبات أفرادها، وليست ساحة للتناظر والفرقة السياسية. ولو ظل الصراع بين على ومعاوية (رضى الله عنهما) سياسيا فقط لما ظهر الخوارج ثم الشيعة وهكذا. العلاقة بين الدين والسياسة فى الإسلام ليست علاقة إحلالية - صراعية، فلا تستطيع دار العبادة أن تحل محل أو أن تتصارع مع دار الحكم، لكنها علاقة تكاملية - تمايزية، فالتمايز بينهما واضح والتكامل بينهما ضرورة. يخرج من دار العبادة القيم العظمى للأمة وتتصارع السياسة من أجل أفضل طريق لتحقيقها، دون أن يسعى الساسة لأن يتخذوا من دور العبادة مقارَّ انتخابية لهم. هذه مفسدة للدين وللسياسة. ولكل من يحاول أن يستغل دور العبادة للترويج لحزب أو مرشح، نقول له: «لا أربح الله تجارتك، ولا رد عليك ضالتك، ولا أنجح لك حزبك أو مرشحك».