اسبح معى.. وقليل من الخيال.. الزمن فى القرن الحادى والعشرين.. التاريخ مارس 2014.. المكان سوريا.. أما هى.. فتاة تمسك ب«بالونة» حمراء تسحبها إلى أعلى.. تطير بها.. وتحلق فوق أرضها.. وكأنها فوق بساط علاء الدين يجوب بها ليس من أجل مشاهدة العجائب والغرائب، لكن لمشاهدة هذا الدمار الذى لحق ببلادها وأودى بحياة أهلها وأصحابها.. تدمع عيناها.. تبكى وتنفصل عن الزمان.. تعود إلى زمن آخر عاشته قبل سنوات عندما كانت سوريا هى سوريا.. تعالَ حلّق معها.. السيارة تشق طريقها ما بين حوارٍ ضيقة وقديمة وأخرى حديثة.. المتاجر والخانات فى كل ركن ومكان، والموسيقى تعلن دقات لغة عصر جديد. وها هى تقف يلتسع جسدها بحرارة شمس بلادها وتسبح روحها بين مشاهد وروائح وأحاسيس تخرج بها خارج الزمان والمكان فتنتقل إلى أزمنة وأمكنة أخرى لها حكايتها وناسها وبيوتها وأزقتها.. كل ذلك يتلاحق فى ثوانٍ معدودة يفقدها توازنها بين الحقيقة والحلم. تلمح منزلها.. هذه بحرة الفناء.. مياهها الصافية تزيد من دلال وعطر شجرة الياسمين التى تتدلى فوقها، ورحيق الشاى «المنعنع» يهفو من بعيد.. يا ترى من عندنا هذا المساء؟ كم مرة جلست فى هذا الإيوان.. وكم مرة طار عقلها ودهش حالها من كل نمنمة وكل زخرفة وكل رسم ولون.. كل «رصة» طوبة وكل كتلة حجر.. من كل قطعة حديد انصهر والتوى.. من هذا الرخام المرجانى وهذا السقف العجمى.. من هذا الباب المعشق وهذه المصطبة بكسائها ونسيجها الدمشقى الأصيل. فى هذا الحمام كانت ليلة حنتها.. كل هذه الأفراح كل هذه الزغاريد.. كل هذا العطر من زهر وفل ويارنج وياسمين.. من بخور وورد فوح جسدها فى ليلة عرسها. فى سوق الخياطين كانت تأخذها أمها.. كم مرة راحت وجاءت وجلست بجانب هذا الرجل العجوز وهو يغزل فستان عرسها من حرير «البروكار». وكم مرة ناداها الأذان من الجامع الأموى للصلاة والدعاء. رائحة الطبخ الشهى تفوح من منزلها وحواديت الصبايا تفرح الجدران.. وفى الصحن قبة شاهقة ومقرنصات وأقواس وأعمدة تلتف فى كل باحة وساحة تزينها النقوش الهندسية والنباتية ببصمة صانع ترتعش لفن الأبدان. وها هى المدينة المسورة العتيقة التى جمع تخطيطها العمرانى أماكن للسكن وأخرى للعبادة وثالثة للحمام ورابعة للبيع والشراء تفسح وتوسع أكثر من باحتها لتصبح مدينة لها مذاق خاص ورحيق يلتصق بك حتى ولو حملتها هذه البالونة الحمراء إلى عالم آخر بعيدا عن هذه المدينة الحبيبة.. نعم سوف يظل هذا الرحيق ملتصقا بها تفوح ذكراه حتى وإن فصلته السبع سماوات. تحية إلى سوريا الشقيقة وتحية إلى أهلها وأطفالها البواسل وشهدائها وإلى هذه الفتاة صاحبة البالون الأحمر فى ذكرى مرور ثلاث سنوات على حربها الأهلية.