منذ ثلاث عقود وسبع سنوات، كاليوم تماماً وُلدت فتاة شقراء تدعي يارا، نالت يارا من الدنيا قدراً كبيراً من الجمال، لم تنل معه القدر الكافي من الحظ والسعادة، كانت يارا امرأة تعيسة بالوراثة، وكأن الحياه دوماً ما تهمس في أذنيها "ممنوعة أنتِ من السعادة يا صديقتي". تزوجت يارا منذ سبعة عشر عاماً زيجة كلها الفشل، إلا أنها استمرت لأسباب مجهولة نتج عنها أربعة أبناء تفرغت تماماً لتربيتهم. يارا لم تعشق يوماً فالعشق حرام، ولم يجبرها أهلها ولم تختار، فأفلتت زمام أمورها من أيديها، قائلة للقدر لك أنت القرار فبئس الاختيار أو بالأحرى عدم الاختيار، آثرت يارا الطريق الأسهل وهو أن تتزوج أول مَن تقدّم لخطبتها خوفاً من شبح العنوسة، وبالطبع تحطّمت آمال يارا في العمل مع أول مولود لها، وكانت ما أسرعها في الاستسلام. مرّت سنوات يارا متشابهة رتيبة تعيسة خالية من أي شيء، لم تعد يارا تطيق ذرعاً بالحديث فارتادت الصمت ملجأ لها، واعتادت عليها أسرتها كذلك، فلم يعودوا يلقوا لها بالاً، فكانت نادراً ما تخاطب أحدهم. تمر الأيام يوماً تلو الآخر لا تختلف عن بعضها في شيء سوى إشارات يسطّرها الزمن على وجه يارا معلناً تقدم العمر بها يوماً بعد يوم كانت يارا تطيل النظر في المرآة فترى شقاءها الأبدي كأبدية اسمها الذي ترنّم به صوت فيروز الملائكي فخلده أبد الآبدين حين شدت "يارا إلِ جدايلها شقر, إلِ فيهن بيتمرجح عُمر" تعشق يارا الجلوس أمام الشرفة وتفحص وجوه المارة في الشوارع وجهاً وجه، وكأنها تبحث عن شيء ما، لا تدري ما هو، ربما تبحث عن حزن يشبه حزنها يخبرها أنها ليست الوحيدة كذلك اليوم اختلف قليلاً، فاليوم جاءت ياسمين الفتاة التي تعمل في بنك كبير وزوجها أحمد وهما شابان حديثا الزواج لم يتخطيّا الخامسة والعشرين من عمرهما وهما جيران يارا الجدد. تظاهرت يارا في البداية بعدم المبالاة إلا أنها احترقت غيرة من جارتها الجديدة الصغيرة الجميلة، وحاولت يارا عدم الاكتراث بهؤلاء الجيران بالرغم من محاولات ياسمين أكثر من مرة أن تصبح صديقتها لكن دون جدوى دائماً تظهر يارا وكأنها لا تراهما ولا تبالي بهما إلا أنها لم تتمكن لحظة من إيقاف استحواذهما على عقلها فدائماً ما كانت تفكر بهما ماذا يفعلان؟ مع من يلتقيان؟ إلى أين يذهبان؟ فيما يتحدثان؟ كم هما سعداء؟ هل تزوجا عن حب؟ من المؤكد أنهما تزوجا عن حب يا لهم من سعداء كم تمتلك ياسمين من الحظ الذي جعلها تتزوج من اختارت، وكأن يارا منذ زمن لم تختار، حقاً نسيت أن حياتها محض اختيارها، تهوى يارا إلقاء اللوم على الآخرين فتلوم الزمن والأيام على أخطائها دائماً ما تشعر بالتعاسة، تشعر بضيق ما في صدرها، دائماً ما تخبئ صرخة تريد أن تفجّرها في وجه الأيام. أصبحت يارا تعشق أحمد كثيراً، تمنته زوجاً كما لو لم تتمنى شيئاً قط في حياتها سواه، أما أحمد فلم يرها يوماً إلا كأخته الكبرى إن لم نقل والدته، حيث إنها تبدو في مظهرها أكبر من عمرها الحقيقي بأعمار. لم تفكر يارا يوماً في الخيانة ولن تفكر إلا أنها بدأت تعيش بعض حالات المراهقة المتأخرة، تعشق عشقاً طاهراً عشقاً أشبه بعشق فترة المراهقة التي لم تعشها يوماً فأصبحت تعشق كل من تراه عيناها وبالطبع جميعهم يصغرانها بالعمر وأصبحت تبني في خيالها قصصاً وحكايات تعيش فيها أكثر من واقعها. بدأت تظهر أعراض سن اليأس على شخصية يارا ونفسيتها باكراً، أصبحت تكره حياتها أكثر فأكثر وكانت دائماً ما تبكي دون أسباب أو ربما لأتفه الأسباب وباتت تحقد على كل الناس باتت تراهم سعداء وهي الوحيدة كذلك مع أن المعظم يضاهينها حزناً. أصبحت عندما ترى قريباتها اللاتي يصغرنها بالعمر ولم يتزوجن بعد وصارت تنهَرْهن ببعضٍ من السخرية كيف لهن ألا يتزوجن إلى هذا العمر؟! ألا يخشينَ أحاديث الناس! وكأنها أصبحت تريد أن تصنع من كل فتاة نموذجاً مصغراً منها ومن حياتها التعيسة علّها تنتقم من الحياة فيهن. تذكرت يارا فجأة أن عمرها أشرف على الأربعين تتساءل متى مضى هذا العمر، كيف لم أنتبه له يوماً؟ ما أسرعها الأيام؟ لماذا أنا تعيسة إلى هذا الحد؟ لماذا حياتي لا تشبه الأخريات؟ مع أن في الواقع كل الناس تسأل نفس السؤال وما أكثر حياتهم تشابهاً أحياناً... متكأة يارا على مقعدها بجوار زوجها وأبنائها تنظر لهم بتمعن وهم يتابعون التلفاز غير مكترثين بما يحدث معها فهي يارا كما هي وكما اعتادوا عليها كذلك صامتة، هادئة، شاردة، حزينة، مدمعة العينين لم يتغير شيء فيها ربما ظاهرياً إلا أن داخلها بركان على وشك الانفجار. ربما لو عاد الزمن بيارا يوماً فلن تتزوج أبداً شخصاً إلا عن قناعة تامة بأنها تريد الزواج منه ولن تتزوج فقط لمجرد الزواج أو لأن ثمة مجتمع متخلف يرغب في ذلك لأن هذه إحدى معتقداته المقدسة التي تجبر الفتاة على الزواج سريعاً خوفاً من شبحيّ العنوسة وكلام الناس، فنحن نتزوج أشخاصاً لا معتقدات يا سادة.