اعتدنا أن نقول «ورانا» عمل ثقيل، وغالباً نصفه بأنه «همّ ما يتلم»، بينما يقول غيرنا «أمامنا» عمل لننجزه، يسعون بعده للتمتع بحياتهم. الفرق استحواذ الماضى علينا، بينما فى ثقافات وعوالم أخرى يهتمون بالغد، والتطلع لحياة أفضل، وربما لهذا ننظر إلى الماضى دوماً وعلى مستويات متعددة باعتباره زمناً جميلاً، نستدعيه ونتمناه ونراه خالياً من المثالب أو العيوب، بينما كان معاصروه يرونه باعثاً للقلق. الهروب من الواقع إلى الماضى يخفف من ثقل مواجهتنا لأنفسنا، وتحمل مسئولية الانطلاق للأفضل. قد نكون بحاجة إلى قراءة تجارب شعوب قريبة منا تنتمى لعالمنا الثالث، وتنتسب لحضارات عريقة أيضاًً، بعيداً عن بكائية المقارنة بالغرب، لفت نظرى إليها عالم اجتماع جليل، الدكتور سعدالدين إبراهيم عندما تطرق الحديث عن تجربة دول جنوب شرق آسيا، خاصة الهند التى بدأت معركة التحرر معنا فى بدايات النصف الثانى من القرن العشرين، لكنها رغم محاولات التفتيت الطائفى نجحت فى الخروج من نفق التخلف، عبر التزامها بخطط خمسية تتالت إلى سبع دورات، ولم تشتت نفسها فى أحلام مفارِقة لقدراتها، ولم تطمح أن تنتج «من الإبرة للصاروخ»، لكنها ركزت على «التعليم» مدخلاً لاقتحام المستقبل، وعبر الرؤية التعليمية اختارت فى البحث العلمى مجالين محددين؛ «الرياضيات والفيزياء»، حتى أصبح لديها فائض من المتعلمين المتخصصين شق طريقه إلى العالم المتقدم ليصبح من العلماء الذين حجزوا مقاعدهم فى «وادى السيليكون» Silicon Valley، وهى منطقة فى خليج سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا بأمريكا، وتضم كبرى شركات التقنيات الرقمية وصناعاتها واستثماراتها. وعاد هؤلاء العلماء إلى موطنهم الهند ليبعثوا اقتصادها منافساً لاقتصادات العالم الأول، فى إعادة استثمار الأعداد الكبيرة (مليار و300 مليون نسمة) والتعليم الجيد والعمالة الرخيصة. واقتحموا عالم الهندسة الوراثية بكل تجلياتها فى الزراعة والتصنيع الزراعى ليحققوا اكتفاء ذاتياً ويحققوا فائضاً للتصدير، وهى تجربة انتقلت إلى المكسيك والبرازيل، وهما غير بعيدين عن مناخات وأجواء عالمنا الثالث الذى ينتسبون إليه. ويقول عالم الاجتماع إن ظاهرة الهند وبقية دول النمور الآسيوية لفتت اهتمام علماء الاجتماع لتحليلها ومعرفة سرها، وانتهوا إلى أن هذه المنطقة نجحت لأنها اعتمدت على منظومة قيمها الحضارية ولم تتنكر لها، وعلى رأسها قيمة «الثقة فى التعامل اليومى»، وعليها أسس البروفسير محمد يونس مشروع بنك الفقراء فى بنجلاديش، ومهاتير محمد فى تجربته التى قفزت بماليزيا فى سنوات معدودة، ومن خلالها تم توظيف رأس المال البشرى والاجتماعى والثقافى لحساب تنمية مجتمعاتهم. اللافت أن هذه القيم كانت سائدة فى مجتمعنا المصرى فى أجيالنا السابقة قبل أن تغشانا موجات التصحر الفكرى التى جرفت منظومة قيمنا المصرية، وقبل أن نتحول من اقتصاد الإنتاج والقيمة المضافة إلى اقتصاد الريع وثقافة الاستهلاك، وقبل أن تزيح الكراهية التى بثها عناصر التكفيريين قيمَ القبول المتبادل والتكافل والتراحم والثقة فى التعامل، واعتبرت التعدد والتنوع إثماً ومعصية. ويبقى السؤال هل يستقيم السعى لاقتحام المستقبل ونحن محملون بهذه القيم السلبية؟ اقتحام الغد يبدأ بالتعليم وإعادة الاعتبار للإنسان لكونه إنساناً، والحسم فى تسمية مشاكلنا ومواجهتها بغير مواربة أو مواءمات.