إنى أنتمى إلى جيل من المصريين نشأ وترعرع فى مناخ ثقافى، تألقت فيه أسماء توفيق الحكيم وطه حسين والعقاد والمازنى. كانت أسماؤهم تتردد على أسماعنا وعلى صفحات الجرائد والمجلات، كما يتكرر نشر صورهم وأخبارهم بمثل ما تتكرر به أسماء وصور كبار الزعماء السياسيين. كان بعضهم، بالإضافة إلى تأليف الكتب والكتابة فى الصحف والمجلات، يلقى أحاديث دورية فى الإذاعة المصرية، باللغة العربية الفصحى، أما التليفزيون فإنه -وإن كان قد ظهر فى مصر قبل وفاتهم «فيما عدا المازنى»- لم يفد منهم ولا هم أفادوا منه، بل ولا أشك فى أنهم كانوا ينظرون إلى التليفزيون بريبة شديدة قد تصل إلى درجة الامتعاض. كان توفيق الحكيم أقربهم إلى قلبى، ولا بد أنى قرأت الكثير من رواياته ومسرحياته قبل أن أنهى الدراسة الثانوية، وكانت أقرب الروايات إلى قلبى -كما هى فى نظر معظم أفراد جيلى- «عودة الروح»، و«يوميات نائب فى الأرياف»، و«عصفور من الشرق»، فُتنت أيضاً فى ذلك الوقت المبكر بكتاب غريب للحكيم اسمه «زهرة العمر»، وهو غريب لأنه ليس قصة ولا رواية أو مسرحية، بل مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين صديق فرنسى حميم له اسمه «أندريه»، أثناء إقامة الحكيم فى باريس وإقامة «أندريه» فى مدينة فرنسية أخرى، ثم بعد عودة الحكيم إلى مصر، أظن أن الذى فتننى فى هذا الكتاب، وأنا فى الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرى، وصفه لاكتشافاته للحياة الثقافية فى فرنسا، فى المسرح والموسيقى والأدب والفنون التشكيلية، وفرحه الشديد بها، كوصفه لحماسه مثلاً لسيمفونية من سيمفونيات «بيتهوفن» عندما كان يستمع إليها من أعلى المسرح، لأنه لم يكن لديه ما يكفى من نقود للجلوس فى مكان أفضل، لا بد أنى فى هذه السن، وأنا قابع فى القاهرة، وقبل أن أسافر إلى أى بلد غربى، قد تعاطفت بشدة مع مشاعر توفيق الحكيم عندما قابل الحضارة الغربية لأول مرة وجهاً لوجه، هذه المشاعر التى نقلها إلينا بأسلوبه العذب والموجز، وبخفة ظله التى لم تفارقه قط. أذكر أيضاً هيامى برواية «عصفور من الشرق» التى تذكر دائماً من بين الروايات العربية التى تناولت مشكلة التقاء الشرق بالغرب، إلى جانب روايات «قنديل أم هاشم» ليحيى حقى، و«الحى اللاتينى» لسهيل إدريس، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، وقد ظللت أحمل هذا الشعور الطيب لرواية «عصفور من الشرق» بسبب ما أثارته فى نفسى من إعجاب، وأنا صبى ناشئ لم يدخل الجامعة بعد، حتى وقعت فى يدى من جديد بالصدفة المحضة منذ أيام قليلة، فقد رأيت فى إحدى المكتبات طبعة جديدة لها نشرتها دار الشروق فى سنة 2004، وعليها صورة جميلة ومعبرة لتوفيق الحكيم وهو جالس على مقعد وثير فى حديقة، يحلم أو يتأمل، وقد ارتدى «البيريه» الذى اشتهر به، وأمسك بعصاه الشهيرة أيضاً، فقررت، مدفوعاً بالرغبة فى استعادة مشاعر الصبا، أن أعيد قراءة الرواية، واشتريت الطبعة الجديدة وشرعت فى قراءتها. استغربت أولاً من صغر حجم الرواية، فهى لا تزيد على 150 صفحة صغيرة، لابد أننى كنت وأنا صبى أعتبرها كتاباً ضخماً، إما بسبب صغر حجمى أنا، أو لبطئى فى القراءة حينئذ، لم تستغرق قراءتها منى أكثر من ساعتين أو ثلاث، ولكن الأفكار التى أثارتها فى ذهنى هذه المرة كانت من نوع مختلف تماماً عما لابد أنه ثار فى ذهنى عندما قرأتها لأول مرة، كما أنى لابد أن أعترف بأنى استغربت بشدة كيف كنت أنظر إليها بكل ذلك الإعجاب. إنى لا أريد قط أن أغمط توفيق الحكيم حقه، الرجل حكاء ممتاز، والرواية مشوقة من أول سطر وحتى النهاية، وخفة ظل الكاتب واضحة فى كل فقرة، ولكن أين بالضبط مصدر حماسى القديم للرواية؟ وهل هذا هو أقصى ما انتهى إليه فكر توفيق الحكيم فى ذلك الوقت عن العلاقة بين الشرق والغرب؟ إن نقائص الحياة فى الغرب «أو الحضارة الغربية إذا شئت» تظهر فى الرواية فى شيئين لا ثالث لهما: الحرية الجنسية فى خارج نطاق الزواج، وقسوة النظام الاقتصادى، وعلى الأخص ما يسببه من بطالة. كان الحكيم يكتب الرواية فى الثلاثينات «نشرت الطبعة الأولى فى 1938» أى فى أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية الشهيرة، ومن ثم فقد لاحظ ارتفاع معدل البطالة، وأضاف إلى ذلك وصف علاقة حميمة بين بطل الرواية وامرأة فرنسية دون زواج «تعمل عاملة فى شباك تذاكر لأحد المسارح»، وخيانتها له دون أن يبدو عليها أسف شديد على ذلك. لم يأت نقد الغرب فى الرواية على لسان بطلها «محسن»، بل أتى على لسان رجل روسى عجوز اسمه «إيفان»، كفر بالحضارة الغربية كلها، وأخذ ينصح «محسن» كلما رآه بالعودة إلى «الشرق»، وجدت دفاع الروس عن هذا «الشرق»، عندما قرأته هذه المرة دفاعاً ضعيفاً للغاية، وكذلك نقده للغرب، وجدته لا يزيد كثيراً على بعض العبارات الإنشائية فى المقارنة بين «مادية الغرب»، و«روحانية الشرق»، مما لا يمكن أن ينجح فى رأيى فى إقناع أى قارئ الآن. صحيح أن الرواية تنتهى بصفحتين أو ثلاث على لسان «محسن» يحاول فيها تنبيه صديقه المعجب بالشرق إلى أن الحياة عندنا ليست بالكمال الذى يتصوره، بل إننا عندما قمنا بتقليد الغرب أصبح منظرنا مثيراً للضحك، كما يثيره منظر قردة اختطفت ملابس سائحين من مختلف الأجناس، وصعدت بها فوق شجرة ترتديها وتقلد حركات أصحابها! فى هذه الصفحات تحذير مؤثر من المبالغة فى تقدير النواحى الإيجابية فى حياتنا بالمقارنة بحياة الغرب، ولكنى وجدت هذه الصفحات أقرب إلى طبيعة المقال منها إلى القصة، ومن ثم انتهت قراءتى للرواية دون أن أستعيد ما كنت أتوقع أن أجده من ثراء وعمق النظرة، وقلت لنفسى: «إن هذا يدعم رأى البعض بأن توفيق الحكيم فنان عظيم أكثر منه مفكرا كبيرا». ولكن الأهم من ذلك ما خطر بذهنى حينئذ من مقارنة بين حالة الرواية والقصة فى مصر، منذ سبعين عاماً، وبينها الآن، وكيف قفز بعض الروائيين المصريين والعرب بوجه عام بالرواية والقصة قفزة رائعة، منذ أن كان يكتب توفيق الحكيم. إن الأحداث فى روايتى «علاء الأسوانى» مثلاً: «عمارة يعقوبيان»، و«شيكاغو»، أكثر دسامة وثراء، والتجارب أكثر عمقاً، والشخصيات مرسومة بمهارة أكبر، ونابضة بالحياة، بل والمدهش أيضاً أن نظرة الكاتب الآن إلى العلاقة بين الشرق والغرب «أو بين النمط التقليدى للحياة وبين النمط الحديث»، تبدو لى أكثر عمقاً وأبعد إدراكاً لدرجة التعقيد القائمة فى هذه العلاقة، كما تعكس ثقة أكبر بالنفس مما أبداه توفيق الحكيم. إن نقد علاء الأسوانى لنمط الحياة الغربية فى رواية «شيكاغو» مثلاً -وإن لم يكن نقداً مباشراً مثلماً هو فى «عصفور من الشرق»- أكثر نفاذاً وأبعد غوراً من نقد الحكيم، كما يتضح مثلاً فى تصوير الأسوانى للعلاقة بين الجنسين، وكذلك بين البيض والسود، فضلاً عن أن شخصيات هذه الرواية مرسومة بطريقة أكثر إقناعاً من أى شخصية فى «عصفور من الشرق». لقد وجدت من المفيد أن أذكر هذه الملاحظة للقراء، خاصة فى وقت يسود فيه شعور بأننا نحن المصريين نتأخر ولا نتقدم، ولا يكف فيه المصريون عن الترحم على أيام ماضية كانت أفضل من أيامنا الحالية، صحيح أن أشياء كثيرة فى حياة المصريين كانت أفضل منذ سبعين عاماً، ولكن هذا القول ليس صحيحاً بإطلاقه، لقد أحرزنا تقدماً لا شك فيه فى أمور كثيرة، من بينها فن الكتابة الأدبية. ولكنى عدت لأقول لنفسى: ومع هذا فهل كنا نتصور أن يكون لدينا اليوم روائيون عظام لولا أن الله رزقنا بأمثال توفيق الحكيم منذ سبعين عاماً؟ كيف يمكن أن ننكر فضل هذا الرجل الذى وضع أسس الرواية والمسرحية والقصة المصرية الحديثة، ناهيك عما أشاعه هو وزملاؤه الرواد، من حيوية وحركة فى التفكير، وبهجة فى نفوس جيلى وأجيال تالية من المصريين؟!