من منا اليوم يتذكر فقط عشرة أرقام تليفونية للأهل والأصدقاء؟ من منا لا ينسى هذا الكم الرهيب من (الباسوردز أو رموز الدخول) للتليفونات وحسابات الإيميل والفيس بوك وغيرها، التى ينبغى أن نحفظها غيباً ومع ذلك نخطئ مرات فى التوصل إليها؟ وحين نتوصل إليها نفرح ثم يتكرر النسيان، ونعود لنفرح بصدفة التذكر ونكرر الأمر مثل كائنات عصرية مدجنة. * أنا شخصياً ما زلت أحفظ (فقط لا غير) رقم تليفونى القديم جداً ورقم تليفون زوجتى القديم. أرقامى الحديثة تعددت: كأرقام الجامعات (ثلاثة أرقام) ثم رقم تليفون البيت الشخصى ثم الموبايل الخاص، وفى انتقالاتى لأى بلد ولو لبضعة أيام، بدأت أحرص على اقتناء رقم تليفون محلى يروح بعد انتهاء خدماته لسلة النسيان، ويستنكر البعض أننى لا أحفظ رقم تليفونى، فأنا لا أتصل بنفسى أبداً! كنت قبل سنوات قليلة من حزب رافضى الموبايل بجدارة، حتى كاد العالم الحديث أن يلفظنى خارج طائفة البشر العاديين؛ فاضطررت لاقتناء واحد وأصبحت كائناً «موبايلى» عادياً. قديماً كان للعائلة الواحدة رقم تليفون واحداً ولم يكن متاحاً لكل العائلات ترف امتلاك تليفون. اليوم كم يبلغ عدد التليفونات -ناهيك عن الأرقام المزدوجة- لعائلة تتكون من خمسة أفراد؟ * عشت حياتين تعليميتين مختلفتين: حياة أولى فى مصر اعتمد التعليم فيها على ذاكرة الحفظ والتلقين سواء فى الكُتّاب، مرورا بالمدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية، أو حتى الجامعة التى لم نسلم فيها من طريقة الحفظ والاسترجاع بدلاً من الفهم والاستيعاب. من البديهى أن الحفظ بقدر معقول لا غبار عليه ولست ضد ذلك بصورة قاطعة، لكنى أرى أن الإسراف فى الحفظ وتقييمه بالدرجة الأعلى هو طريقة خاطئة، تؤثر سلبياً على ذهنية الفرد فى الكبر وتؤدى إلى النقل أكثر من استعمال العقل، وإلى الردود المحفوظة بدلاً من استخدام ملكة التفكير! حزنت وأنا فى جامعة عين شمس أن أرى مكتبة الكلية للمرة الأولى فى حياتى حين وصلت إلى مرحلة الماجستير. لم ينبهنا أى أستاذ أو معيد لوجود مكتبة فى الدور العلوى. اهتمامهم كان دائماً أن نلتزم بملازمهم أو بكتبهم هم فقط وبالشراء طبعاً. نادراً مَن كان يدرّس لنا من كتاب زميل له أو من كتاب آخر متميز فى عرضه. الحياة الثانية كانت هنا بعد وصولى إلى فيينا، تركزت فيها ذاكرتى على حفظ الكلمات الألمانية كحتمية للتواصل الصحيح بلغة الناس. فى الجامعة كان من الضرورى حفظ بعض النظريات وبعض مواد القانون والدستور، لكن بقية المواد كانت المناقشات والحوارات فيها أهم وأعمق. كان علينا فى الجامعة «الفييناوية» جذب عوالمنا الخارجية وخبراتنا العلمية والشخصية فى متن ما ندرس، وكان هذا أعظم الدروس التى تلقيتها فى حياتى! أن نتعلم على فتح العقل لتنشيط التفكير بالأخذ والعطاء، لا أن يكون العقل مخزناً لحفظ المعلومات ونقلها مثل أى آلة! * هناك ورطة جديدة مع التكنولوجيا الحديثة جرّتنا إليها بابتهاج كبير، فقد وعدتنا بأن تكون هى المخ الحافظ لآلاف العمليات المعقدة فى ذاكرة خارجية، لتوفير قدرات المخ البشرى فى أشياء أهم، فتنازلنا للتكنولوجيا تدريجياً حتى عن أبسط العمليات الحسابية التافهة، وضعنا خبرتنا فى أجهزة الكمبيوتر والحاسبات الإلكترونية، لنجد أنفسنا فى النهاية بدون ذاكرة تقريبا. الآن نحمل ببساطة فى جيوبنا، شريحة جبارة لعالم كامل برأس مقطوعة أو رءوس مصغرة جدا تفكر وتعمل لنا، ولو أصيبت بعطب أو ضاعت منا تتحول حياتنا فى لحظة إلى كارثة تواصل مع العالم وشبه عزلة. أتمنى ألا نصل إلى الزمن الذى نسأل فيه الكمبيوتر عن أسمائنا وأسماء أولادنا وعناوين سكننا!