دموع وآلام وآهات تُثقل الصدور التى يملأها الغضب، فتشعرك ببركانه الخامد، بينهما العيون زائغة، خائفة من القادم بعد الكثير الذى رأته فى الماضى. النيران والدماء طاردتهم من أقصى الصعيد ليستقروا فى منزل تحت الإنشاء فى أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، فراراً بحياتهم من بطش من لا يرحم. إنهم أقباط «دلجا» بمحافظة المنيا، المهجّرون منذ شهور، المطارَدون والمطرودون من منازلهم وأملاكهم، بعدما سُفكت دماؤهم فى الصعيد، فقرروا الفرار قبل أن تفيض أرواحهم نتيجة التعصب. هؤلاء ضحايا عزل تنظيم الإخوان الإرهابى عن الحكم، ففى قرية «دلجا» كانوا يعيشون بين جيرانهم، يعاملهم البعض بود، فيما يرى الآخرون أنهم «ذِمّيون». بين هؤلاء كان يعيش «إسكندر طوس»، حلاق القرية، الذى يبلغ من العمر 67 عاماً، فى منزل متواضع وسط منازل أبنائه الخمسة، يتمتع بسمعة طيبة بين أهل القرية، لا ينغّص حياته شىء سوى تأمين مصدر رزقه، وتوفير حياة كريمة لأبنائه، إلا أن حياته انقلبت رأساً على عقب بعد 3 يوليو الماضى، فما إن ألقى الفريق عبدالفتاح السيسى، وزير الدفاع، بيان عزل «مرسى» وظهر فى المشهد البابا تواضروس الثانى، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، حتى هاج المتشددون فى القرية وأنصار «الإخوان» وهجموا على منازل الأقباط ومتاجرهم، وعندها سقط أحد مسلمى القرية صريعاً، واتُّهم فيه أحد أغنياء الأقباط بالبلدة، يُدعى «نادى فهمى»، الذى قبض عليه وأُحيل إلى النيابة، التى أفرجت عنه بعد الاستماع لمحاميه «سمير لمعى» وهو ابن عم «إسكندر»، وحمّل إخوان القرية «سمير» مسئولية الإفراج عن «فهمى»، الذى فرّ من القرية هارباً لا يعرف له أحد عنواناً، ما جعل المتشددين يعتبرون أن لهم ثأراً مع محاميه «سمير» وأسرته. تحكى عطيات إبراهيم، زوجة «إسكندر»، ل«الوطن»، لحظات انتقام المتشددين، فتقول: «ظلت المناوشات والاشتباكات بين مسلمى القرية وأقباطها تتكرر كل يوم بين الحين والآخر، حتى جاء اليوم المشئوم، 14 أغسطس الماضى، فبعد فض اعتصام الإخوان وأنصارهم فى رابعة العدوية، وميدان نهضة مصر، الذى كان يشارك فيه بعض أهالى القرية مقابل 200 جنيه فى اليوم الواحد، هجموا على منازل الأقباط، فحرقوا 58 منزلاً ونهبوا ممتلكاتهم، فضلاً عن حرق كنائس القرية، وهجّروا 150 أسرة قبطية منها». تضيف «عطيات»: «المهاجمون استهدفوا زوجى، إسكندر، وابن عمه المحامى سمير، فقتلوا زوجى برصاصة فى صدره، وأُصيب ابن عمه ووالدته وداد عبدالنور، بإصابات بالغة، قبل أن ينقذهما بعض جيراننا المسلمين، أما أنا فقد اختبأت فى الحمام، وزوجة ابنى هناء ذاكى، اختبأت فى مخزن بالمنزل». انهمرت الزوجة فى البكاء، فيما واصل نجل «إسكندر» ابنها «ثأر» الحديث: «أخذ المهاجمون أبى وربطوه فى جرار زراعى وقاموا بسحله فى شوارع القرية وتصويره وهم يمثلون بجثته التى قُدمت للنيابة، قبل أن يلقوه فى مقلب للزبالة بجوار القرية، فى الوقت الذى كان فيه بعض مسلمى قرية بجوارنا تربطنى معرفة بهم يهرّبوننى أنا وأشقائى وأمى من القرية خشية مواصلة الانتقام منا، والمسلمون الذين حمونا هم أنفسهم مَن ذهبوا مرة أخرى إلى دلجا لدفن أبى فى مقابرنا، دون أن يُصلى عليه». وبمرارة يتحدث «ثأر»: «لم يترك المتشددون أبى بعد موته وما فعلوه به، بل أخرجوه فى اليوم الثانى من قبره، من أجل استفزازنا، ومحاولة إرجاعنا للقرية مرة أخرى لدفنه، حتى يفتكوا بنا، لكن عاود من نحتمى عندهم من المسلمين الذهاب للقرية، ودفنوا أبى مرة أخرى، ووضعوا قفلاً على باب المقبرة، وفى اليوم الثالث كسر المتشددون القفل، وحاولوا إخراج الجثة ولكنهم لم يستطيعوا لأنها تحللت، فما كان منهم إلا أن صوروها وعرضوا مقاطع الفيديو له وهو فى قبره على (اليوتيوب)، أما المحامى ابن عم والدى فقد حماه بعض جيراننا وأخذوه إلى المستشفى وبعد أن شُفى هرب من القرية وهو يرتدى النقاب، حتى لا يكتشف أحد أمره، وهرب إلى القاهرة». فى تلك الأثناء دخل «إبراهيم» أصغر أبناء القتيل، طالب فى الصف الثالث الإعدادى، ظل شهرين لا يذهب إلى مدرسته، لعدم استطاعته جلب أوراقه من المدرسة التى كان فيها، ولم تقبله أى مدرسة حكومية فى القاهرة، فلم يكن أمام أسرته إلا أن تدخله مدرسة خاصة. تحدث «إبراهيم» عن حلمه بالعودة إلى قريته ومنزله ولكن مشهد والده الذى قُتل وسُحل أمام عينيه لا يفارق مخيلته، وتتدخل الأم المكلومة فى الحديث فتقول: «نحن لا نريد شيئاً سوى أن نأخذ حقنا، وعارفين إنه صعب نرجع بلدنا وبيوتنا تانى ونعيش فيها بعد اللى حصل ودم جوزى اللى سال فيه». يكمل «ثأر» كلامه: «4 شهور مرت على وفاة أبى ولم نستطِع حتى الآن استخراج شهادة وفاة له، وقدمنا عشرات البلاغات للنيابة والقضاء، لكنهم لم يتحركوا ولم يحققوا فى الأمر إلا بعد 100 يوم على قتل أبى، وذهبوا إلى القرية وعاين الطب الشرعى الجثة وأخذ عينات منها، ولم يظهر تقرير الطب الشرعى حتى الآن، وما نريده أن تأخذ الدولة حقنا، حيث إن الجناة معروفون بالاسم، وهناك أدلة بالصوت والصورة لهم وهم يقتلون أبى ويمثلون بجثته، كما أن تهديدات بالقتل تأتينا حتى اليوم بالرغم من تهجيرنا من منازلنا، ولا نعلم ماذا يريدون منا، بعد قتل أبى، ونهب بيوتنا وتهجيرنا، وصار أخى الأكبر يعمل خفيراً فى مزرعة، وأنا حلاق، وأخى الأصغر سائق على (توك توك)، لنتمكن من الإنفاق على أسرتنا التى تعيش فى شقة 60 متراً بأثاث متهالك ومستعمل».