تعاني الدول المتأخرة في ركب التطور والإنسانية -ومنها مصر- العديد من المشكلات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن التشوهات الاجتماعية والثقافية، التي تشكل في مجملها سدًا مانعًا يحول دون تحرر وانطلاق هذه الدول وتقدمها. ومن العبث -كما كان ولا يزال- محاولة عبور هذا السد المانع للتقدم، بإجراء مجموعة إصلاحات ارتجالية، من حينٍ لآخر، تفتقد للتنظيم والتخطيط، وفي ظل غياب رؤية شاملة لشكل الدولة وإدارتها، وعدم وجود غطاء فكري وفلسفي كلي يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، والعلاقات العديدة المتشابكة بين السلطة والمؤسسات والأفراد والمكونات المجتمعية من دين وثقافة وقيم وأعراف. فالاكتفاء باتخاذ خطوات إصلاحية بطيئة وعشوائية دون وجود نظام متكامل لإدارة الدولة والمجتمع، وتوجه عام واضح وثابت، لن يمنحنا أبدًا القدرة على كسر سور التخلف العتيق، المانع للتقدم، والانطلاق لبدء مرحلة البناء السليم لدولة ناهضة تلحق بقطار الحضارة الحديثة، ومجتمع أكثر وعيًا وإدراكًا وتعايشًا، يمثل إضافة للأسرة الإنسانية وشريكًا إيجابيًا. من هذا المنطلق، تبدو الأهمية الكبيرة للحديث عن الليبرالية، باعتبارها تجسد ذلك الغطاء الفكري وتلك الرؤية الشاملة لشكل الدولة والمجتمع والنظام المتكامل لإدارتهما، بحسب ما يرى كاتب هذه السطور، وكونها -أي الليبرالية- تمثل الحل الكلي للخروج من نفق الظلمات، وعبور أزماته التي تعاني منها الدول المتخلّفة على كافة المستويات سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإنسانيًا. ولكن قبل الحديث عن الليبرالية شرحًا وتأصيلاً وتطورًا لا زال لم يكتمل بعد، دعونا نتناول أولاً المشكلات التي نواجهها في مصر، لنتحدث ثانيًا عن جدوى الحل الليبرالي وأهميته: 1) تتمثل المشكلة الرئيسية في غياب رؤية عامة محل توافق، لشكل الدولة والمجتمع، وكيفية إدارتهما، وحدود تدخل الدولة في حياة المواطنين وعلاقاتها بالقيم المجتمعية المختلفة، وفي مقدمتها الدين والأخلاق. 2) تشوه منظومة القيم بالمجتمع، وانتشار أفكار تستند لمفاهيم رجعية دينيًا وثقافيًا، تتعارض وحقوق الإنسان والحداثة والتقدم الإنساني، إضافة لما حدث من فقدان القدرة على التعايش المشترك وقبول الآخر واحترامه؛ ما أدى لانقسام المجتمع وانزلاقه في دائرة استقطاب تتصاعد حدتها يوميًا. 3) ضعف النظام السياسي، وعشوائيته، وعدم قدرته على القيام بواجباته في ظل غياب قيم الحكم الرشيد، وفي مقدمتها: الديمقراطية الحقة، وتداول السلطة، والشفافية، والمحاسبة، والكفاءة، والمساواة. مع الاكتفاء بإطار شكلي أجوف فاقد للجوهر والمضمون . 4) تدهور الوضع الاقتصادي، وغياب العدالة الاجتماعية في ظل عدم وضوح توجه محدد وكامل للدولة اقتصاديًا يراعي حقوق الفقراء والمهمشين من ناحية، ومواكبة المنظومة الاقتصادية عالميًا واجتذاب الاستثمار الخاص من ناحية أخرى. 5) وجود حالة من العشوائية الدستورية والقانونية، تبدو منسجمة مع حالة التدهور على المستويين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن تآكل مفوم الدولة وسيادة القانون. 6) تراجع دور وكفاءة مؤسسات الدولة وأجهزتها، وضعف النظام الإداري وترهّله وإصابته بكم هائل من الجراثيم في ظل غياب الوقاية والرقابة والمحاسبة والشفافية. في اعتقادي، أن تلك المشكلات الست تمثل معًا ذلك الحاجز المانع للتقدم الذي أشرنا إليه في بداية الحديث. والآن علينا أن نتساءل: ما هي الرؤية الشاملة القادرة على تفكسك هذا الحاجز، وحل تلك المشكلات المتشابكة التي تضرب بجذورها في باطن الأرض المصرية.. وما الحلول والرؤى التي تطرحها لتشكل معًا نظامًا متكاملاً يدفع البلد للنهوض والرقي سياسيًا واقتصاديًا وإنسانيًا؟.. إن الليبرالية الكلية، في أصولها الثابتة وتطوراتها المستمرة، هي الخيار المتكامل القادر على حماية الإنسان والحفاظ على حقوقه وحرياته غير ناقصة، وتنشئة مجتمع متماسك ومتعايش ومتعدد، وبناء دولة ناهضة وقوية وفاعلة في محيط الأسرة الإنسانية العالمية. فاليبرالية تمثل الغطاء الفلسفي والقيمّي لإدارة المنظومة الثلاثية المكوّنة من الدولة والمجتمع والفرد بشكل حديث وناجح وفعّال، وهنا مكمن الحاجة إليها، إضافة لما تقدمه الليبرالية من حلول عملية تفصيلية في سياقات السلطة والسياسة والاقتصاد والثقافة وحقوق الإنسان. أولاً: الليبرالية والفرد الفرد هو أساس الفكرة الليبرالية وجوهرها.. من أجله يؤسس المجتمع وتتشكل الحكومة والسلطات وتوضع القوانين لحماية حقوقه الأصيلة التي يتمتع بها بصفته إنسانًا منتميًا للأسرة البشرية، أيًا كانت عقيدته أو عرقه أو نوعه أو لونه أو وضعه الاجتماعي. ولمّا كان الفرد هو محور الفلسفة الليبرالية، فإنه يتمتع بحقوق طبيعية أصيلة، لا تمنحها حكومة ولا تمنعها، إذ أنها لصيقة بماهيته البشرية، وهي على الترتيب: حق الإنسان في الحياة، والكرامة، والحرية، والمساواة، والعقيدة، والرأي والتعبير. ويشكل ما سبق الإنطلاق الفلسفي والفكري لليبرالية، ومجتمعنا المصري أحوج ما يكون أولاً لترسيخ هذه الرؤية والإيمان بها والتوافق حولها بحيث تكون مبادئ عليا غير قابلة للانتهاك أو الانتقاص، تحمي الجميع وتحافظ على حقوق الجميع. ثانيًا: التطبيق السياسي ونظام الحكم الليبرالية لم تحدد نظام حكم معين أو قالب جامد للسطة لا يجب أن تخرج عنه، ولكنها اكتفت بإرساء مبادئ للحكم الرشيد تبدأ بوضع وثيقة تكفل الحقوق الطبيعية للإنسان، وتقسيم سلطات الدولة لمنع الانفراد بها، وإعلاء سيادة القانون والتأكيد على استقلال القضاء، ونزع أي صبغة تقديسية أو تميزية عن الحكم والحاكم بدعوى امتلاك حق سماوي أو استنادًا للقوة أو المال، وتوفير نظم وآليات لتداول السلطة وتوسيع المشاركة السياسية لدى المواطنين والجماعات المختلفة ودعم التعددية السياسية، والنظر للشعب باعتباره صاحب السيادة والحق والإرادة العامة، وإعطاء الأغلبية حق الإدارة مع عدم المساس بالمبادئ العامة والحقوق الأصيلة للجميع. هذه كلها مجموعة من المبادئ التي تطرحها الليبرالية لبناء النظام السياسي للدولة، وهي في معظمها غير متوفر لدى بلدان العالم المتأخر، وتبدو كذلك غائبة عن بلدنا مصر ما يشكل عقبة كبيرة أمام إحداث أي تقدم سياسي. والحل يبدأ بإصلاح كليات النظام السياسي بحيث يصبح مواكبًا لحركة العالم، ونستطيع أن نتحرك تحت هذا الغطاء الليبرالي لنختار النموذج الأكثر مناسبة لنا، من حيث شكل نظام الحكم، النظام الانتخابي، القوانين المنظمة، وهكذا .. ثالثاً: الحل الاقتصادي والليبرالية الاجتماعية لا سبيل اقتصادي لمصر الجديدة التي نحلم بها بعد ثورة 25 يناير، إلا الاقتصاد الاجتماعي الحر، القادر على الموائمة بين حماية الفئات الفقيرة والمهمشة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبين مواكبة حركة الاقتصاد العالمي وتنشيط استثمار الفرد. بحيث تراعي الدولة حقوق الفقراء وتلعب دورًا لتوجيه الاقتصاد، وقد يتسع هذا الدور لا سيما في القطاعات المتعلق بالبنية التحتية للدولة، فضلاً عن دورها في وضع بيئة تشريعية عادلة ومراقبة حركة الأعمال وتضبطها، وذلك دون أن تتراجع لعصور مضت حكمت فيها الدولة وملكت وأدارت، دون شراكة من الأفراد والمستثمرين أو استفادة من إيجابيات السوق الخاص وتنافسيته، ما أدى لانتهاء هذه التجارب بالفشل في نهاية المطاف. هنا، نحن نتحدث عن ضرورة التوجه نحو الميلاد الثاني للفكر الاقتصادي الليبرالي الذي تبلور فيما يسمى ب"الليبرالية الاجتماعية" التي قيدت سياسات السوق الحر، وأعطت للدولة دورًا واسعًا في توجيه الاقتصاد، والرقابة، وضبط السوق، بل والتملك لبعض القطاعات، بما يحقق العدالة الاجتماعية ويحمي الطبقات الفقيرة وعدم تآكل الطبقة المتوسطة، وبهذا وقفت الليبرالية الاجتماعية في المنتصف بين اشتراكية الاقتصاد المركزي، ورأسمالية الاقتصاد الحر، بما يبعد عن جمود الأولى وترهّل الدولة، وتوحش الثانية وتآكل الدولة. رابعًا: نحو مجتمع التعددية والتعايش قلنا أن تشوه منظومة القيم وانتشار أفكار تتعارض وحقوق الإنسان، وعدم وجود مرجعية توافقية جامعة واضحة، أدى لتفاقم انقسام المجتمع وفقدان قدرته على العيش المشترك. والليبرالية بما تضمن من حقوق وحريات وخلق لمساحات التوافق الإنساني هي الحل الآمن لبناء مجتمع متعدد ومتعايش ومتماسك، يقبل حرية الآخر ويبتعد عن الصدام والتناحر والاستقطاب السلبي، ما يلوذ إليه مجتمعنا المصري. وتطرح الليبرالية منظومة من القيم الإنسانية العليا تمثل مساحة مشتركة بين الجميع، وتستند في أصلها إلى حقوق الإنسان الطبيعية الأولى.. أي أن الحل الليبرالي للمجتمع لا يفرض نسق اجتماعي محدد، ولا يتدخل في تشكيل البنية الأخلاقية الخاصة بالمجتمع أو الفرد، والنابعة من العقائد أو العادات أو المكتسب المجتمعي، ولكنها تقضي بحق كل إنسان في بناء تلك البنية الخاصة به، بما لا يتعارض مع حق الآخر في تشكيل بنيته الخاصة أيضًا، على أن يكون الجامع الأخلاقي المشترك هو منظومة القيم الإنسانية العليا النابعة من الضمير الإنساني: العدل، الصدق، التعاون، التعايش، الأمانة، المساواة، استعداء الظلم، نصرة الحق، الخير.. إلى آخر ذلك من الكليات السامية. وليس لدى الليبرالية قالب أخلاقي مجتمعي مفصل تُعبء فيه الأفراد جميعًا، ولا تسعى لذلك وإلا وقعت فيما وقعت فيه بعض المذاهب والتصورات الدينية والمجتمعية الأخرى، لكنها تؤمن بالتنوع القائم على أساس تشاركي يستند إلى القيم العليا للضمير الإنساني. وهذا ليس خيارًا ملحّاً للمجتمع المصري الذي يعاني كثيرًا فحسب، بل إنها فلسفة يحتاج إليه العالم بأسره، من أجل حياة أفضل وأسرة إنسانية متماسكة. إشكالية الدين والدولة.. والحل الليبرالي: بداية يجدر التأكيد على أنه لا خصومة مطلقاً بين الليبرالية والأديان والمعتقدات، بل الأولى تحمي الثانية وتحصنها؛ بحيث لا يجور أصحاب معتقد على آخرين انطلاقًا من التأصيل الليبرالي القائم على حرية العقيدة والتدين. ولكن ثمة تعارض ينشأ عندما يزعم البعض امتلاك صكوك سماوية أو تأويلات دينية تحرْم أو تحرّم على الآخرين، ممارسة حقوقهم الطبيعة الأصيلة، أو بعض تلك الحقوق، التي يتمتعون هم بها، وهنا تقف الليبرالية موقفًا صلبًا ليس ضد الدين، ولكن ضد هذه الفئة من المتدينين الذين يريدون تسيير الآخر وفق رؤاهم هم، وما يؤمنون به. ولمّا كان الدينُ والتدين والاعتقاد، أيًا ما كان، حقٌ أصيلٌ تكفله، بل تحميه الليبرالية؛ شريطة عدم الجور على الحقوق الأصيلة للآخرين، فإن الدولة الحديثة يجب أن تتخذ نفس المقام الرفيع بتحييدها؛ بحيث تصبح ملكًا للجميع، وحاميةً للجميع، دون أن تنحاز لمعتقد على حساب آخر، فالدولة لا تتدين، في الوقت الذي يتدين فيه المجتمع كلٌ كما شاء وآمن. وهذه النقطة تمثل أزمة كبيرة تعيشها مصر، وأغلب الدول العربية والنامية، ولو استطعنا أن نجتازها وفق المفهوم الليبرالي لأزحنا جزء كبير من حائط السد المانع للتقدم، والذي فصلنّاه في السطور الأولى، لأن مبدأ "حيادية الدولة" من شأنه أن يجعلها تجسيدًا لمساحة التوافق المشترك المستند للضمير الإنساني بين كافة أفراد المجتمع مهما اختلفت أديانهم أو مذاهبهم أو رؤاهم، كما أنه يعزز القيم العليا في المجتمع من عدلٍ ومساواة وحرية وتعايش، ويدعم التطلع لسيادة قانون حقيقية، واستغلال أفضل لكل طاقات المجتمع ومكوناته. أخيرًا، فإن الليبرالية اجتهادٌ إنسانيٌ، يتسم بالمرونة بحيث يقبل التعديل والتطوير، والانفتاح بحيث يتكيف ويتعايش مع الطبائع المختلفة، والأصالة بحيث يستند إلى بداية النشوء الإنساني والحقوق الطبيعية، والديمومة بحيث يستمر ما استمرت الإنسانية والحياة. ومصر الليبرالية هي تلك مصر التي حلمنا بها في ميدان التحرير أثناء الثمانية عشر يومًا الأولى بعد 25 يناير، وهي أيضًا مصر التي ثارت في 30 يونيو لتصحيح المسار .. مصر الجديدة التي لا زلنا نتطلع إليها، ولم تحضر بعد.