إذا كانت هناك من كلمة واحدة تفسر فشل انتفاضة يناير 2011 فهى كلمة «القصاص». كان لهذا المصطلح البراق طوال أعوام ثلاثة القدرة على تجميد العقول وإخراس الألسنة، فأصبح عقدة فى منشار، لا يجرؤ أحد على مناقشتها، ولا تجرؤ سلطة على تنفيذه، فبقى يعترض مسار تقدمنا. القصاص مصطلح مخادع تختفى فى طياته مغالطات ومناورات وألاعيب. فلسفة القصاص هى النقيض المنطقى لما دعانا إليه الراحل العظيم نيلسون مانديلا فى الرسالة التى بعثها للمصريين والتونسيين بعد ثورتهم. دعانا «مانديلا» للتطلع للمستقبل، فيما دعانا أهل القصاص للبقاء مشدودين للماضى. دعانا «مانديلا» لاحتواء نوازع الانتقام، فيما دعانا أصحاب القصاص إلى الثأر. قال مانديلا فى رسالته إن «إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم»، لكن أصحاب القصاص تعلقوا بما هو سهل وأقاموه فى موضع ما هو بناء وإيجابى. لم يقصر أصحاب القصاص حدود دعواهم على القصاص لشهداء ضحوا، وإنما وسعوها لتشمل كل من ظنوه ارتبط بالنظام السابق. لاحظ «مانديلا» ذلك فكتب محذرا من إهدار الوقت والجهد فى «سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظام البائد، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفى والإقصاء». لم يكن «مانديلا» مثاليا متغافلا عندما دعانا إلى التسامى، بل كان أكثر واقعية وأبعد نظرا من أى منا. أخطر ما فى مصطلح القصاص هو أنه احتل المكانة التى كان من الواجب أن تحتلها شعارات أعلى قيمة وأكثر نبلا ونفعا للوطن وأهله. احتل القصاص مكانة شعار العدالة الأوسع مدى والأكثر إنسانية. العدالة تتضمن معاقبة الجناة، ولكنها أرحب كثيرا من مجرد إيقاع العقاب. العدالة تضع مصلحة مجتمع الأحياء فوق اعتبارات الثأر للضحايا، فتقتص من الجناة بالقدر والطريقة التى تضمن صلاح البلاد والعباد. العدالة تأتى فى أشكال متعددة، أما القصاص فيأتى فى شكل واحد من نفس نوع الجرم، العين بالعين والنفس بالنفس. فى القصاص عنف ودموية تساوى ما ارتكبه المجرمون. القصاص هو أعظم شهادة نجاح للجناة لما فيه من تعميم لعنفهم وقسوتهم على المجتمع بأكمله. القصاص شعار قبلى له مدلولات دينية، فالثأر هو الشكل المقبول للعدالة بين القبائل. المفارقة هى أن الشبان الثوريين من التيار الليبرالى - اليسارى الذى ظهر مؤخرا هم أكثر من رفعوا شعار القصاص وطالبوا به، فصنعوا من أنفسهم هجينا غريبا من الحداثة والقبلية والدين. رفع شعار القصاص بلا هوادة وفى كل مناسبة، يصيبك بالحيرة إزاء هوية هؤلاء الشبان، وما إذا كانوا يمثلون قوى حديثة تدرك الفارق بين القصاص والعدالة، أم يمثلون قوى غاضبة قادمة من ماض مظلم سحيق عليه مسحة خادعة من حداثة وتقدمية وإنسانية، أم أنهم من أصحاب عقيدة العنف الفوضوى التى يرى أصحابها فى العنف تطهيرا للنفس وللمجتمع. العنف الكامن فى مصطلح القصاص شوش المعنى الأصيل لمصطلحات ومفاهيم أخرى كنا فى مسيس الحاجة لها فى أيام الاضطراب التى عشناها. حتى مفهوم العدالة الانتقالية الراقى الذى أثبتت تجارب الشعوب وخبراتها نفعه وضرورته تحول على يد المنادين بالقصاص ليحمل معنى القوانين الاستثنائية التى تبيح إيقاع العقاب المشدد، حتى باتت العدالة الانتقالية على يد أنصار القصاص مرادفا للعدالة أو الشرعية الثورية التى تبيح المحاكمات السريعة والأخذ بالشبهات والحلول الاستئصالية، فزاد الارتباك وعم الاضطراب. عدالة نيلسون مانديلا الانتقالية لم تسجن أحدا أو تزهق روحا، وإنما اكتفت بالاعتراف بالجرم على رؤوس الأشهاد وفى حضور الضحايا وذويهم سبيلا للعقاب وإشفاء للغليل وتطهيرا للنفوس وثمنا للمصالحة. تمسك الشبان الثوريون بالقصاص تمسك المؤمن بالدين، فيما تلاعب به أهل الدين وفقا للحاجة والمصلحة. طالب الإخوان بالقصاص حين كان فى ذلك مصلحة لهم، وتغاضوا عنه حينما غابت المصلحة، فهم مرة يطالبون بالقصاص من مبارك ورجاله، ومرة أخرى يلوحون بالعفو عنهم، ومرة يتغاضون عن انتهاكات ارتكبها المجلس العسكرى، ليعودوا للمطالبة بالقصاص بعد أن دارت عليهم الدوائر. وظف الإخوان شعار القصاص لصالحهم فى السياسة والانتخابات وراوغوا فى استخدامه، ولعل الطريقة التى حاول بها المرشد بديع تذكير مرسى بالقصاص يوم جرى إعلان ترشح الأخير للرئاسة تشى بالطريقة الإخوانية المراوغة فى التلاعب بالقصاص. القصاص زاد المشهد السياسى ارتباكا حين تم رفعه إلى مرتبة الهدف الذى يسمو فوق أى هدف آخر من الأهداف التى خرج من أجلها الناس فى يناير. المطالبة بالقصاص والتهديد به ضيع أى فرصة لتوافق وطنى يطوى صفحة الماضى بالعدل، فكل من وجد نفسه مهددا بقصاص بدائى خشن دفعته غريزة البقاء لإفساد البلاد على العباد بعد أن جعل أنصار القصاص من الانتقام منه شرطا للإصلاح والصلاح. أساء أصحاب القصاص للشهداء من حيث لا يدرون. لحقت الإساءة بالشهداء عندما تغاضى أصحاب القصاص عن التحاق الكثيرين من الخارجين على القانون بقائمة الشهداء، حتى ضاعت الخطوط الفاصلة بين من خرج من أجل قضية، ومن خرج من أجل سلب ونهب. تغاضى أصحاب القصاص عن تشابك الخيوط وتداخلها حتى تطول قائمة الشهداء، وتزيد أعداد المطالبين بالقصاص. سقط الشهداء من أجل تغيير مصر وليس من أجل منفعة شخصية. الإصرار على القصاص بديلا عن العدالة وتقدم البلاد جعل الأمر يبدو كما لو أن الشهداء خرجوا فى نزهة، فلما لحق بهم الأذى أصبح الثأر واجبا. للشهداء الحق فى التكريم اعترافا بالفضل، وللمجتمع الحق فى البناء على ما حققوه من أجل الارتقاء والتقدم، ولكن ليس من حق أحد ابتزاز المجتمع بالدماء الزكية التى سالت. لو أن الناس فى كل بقاع الأرض تمسكوا بالقصاص بنفس طريقة أصحاب القصاص عندنا، لما انتهى صراع على وجه الأرض، وما كانت حرب وضعت أوزارها، ولكانت البشرية فى حالة حرب دائمة منذ قتل قابيل أخيه هابيل.